الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                4499 4500 4501 4502 4503 ص: قيل لهم: هذا لو لم يختلف أصحاب رسول الله -عليه السلام- في ذلك، فأما إذا اختلفوا فيه، فقال بعضهم ما ذكرتم، وقال آخرون بخلاف ذلك لم تجب بما ذكرتم لكم حجة، فمما روي خلاف ما احتجوا به من الآثار المذكورة عمن رويت عنه من أصحاب رسول الله -عليه السلام- الدالة على أن الأقراء غير الأطهار: ما حدثنا يونس ، قال: أنا سفيان ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن علي بن أبي طالب ، -رضي الله عنه-: "زوجها أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة".

                                                حدثنا علي بن شيبة ، قال: حدثنا يزيد بن هارون ، قال: ثنا سفيان بن سعيد ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة: ، "أن رجلا طلق امرأته فحاضت حيضتين، فلما كانت الثالثة ودخلت المغتسل، أتاها زوجها فقال: قد راجعتك -ثلاثا- فارتفعا إلى عمر ، -رضي الله عنه-، فأجمع عمر وعبد الله على أنه أحق بها ما لم تحل لها الصلاة، فردها عمر عليه".

                                                حدثنا يونس ، قال: ثنا ابن وهب ، أن مالكا أخبره، عن نافع ، أن عبد الله بن عمر ، كان يقول: "إذا طلق العبد امرأته ثنتين فقد حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، حرة كانت أو أمة، وعدة الحرة ثلاث حيض، وعدة الأمة الحيضتان".

                                                [ ص: 79 ] فهذا عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- وهو الذي روى عن رسول الله -عليه السلام- قوله لعمر: "فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء" ولم يدل ذلك على أن الأقراء الأطهار، إذا كان قد جعلها الحيض.

                                                حدثنا ابن أبي داود ، قال: ثنا الوهبي ، قال: ثنا محمد بن راشد ، عن مكحول: ، "أنه قدم المدينة ، فذكر له سليمان بن يسار أن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- كان يقول: إذا طلق الرجل امرأته فرأت أول قطرة من دم حيضتها الثالثة فلا رجعة له عليها، قال: فسألت عن ذلك بالمدينة، ، فبلغني أن عمر بن الخطاب ، ومعاذ بن جبل ، وأبا الدرداء كانوا يجعلون له عليها الرجعة حتى تغتسل من الحيضة الثالثة". .

                                                حدثنا يونس ، قال: ثنا ابن وهب ، قال: أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، قال: أخبرني قبيصة بن ذؤيب ، أنه سمع زيد بن ثابت يقول: "الطلاق إلى الرجال والعدة إلى المرأة، إن كان الرجل حرا وكانت المرأة أمة فثلاث تطليقات وتعتد عدة الأمة حيضتين، وإن كان عبدا وامرأته حرة طلق طلاق العبد تطليقتين واعتدت عدة الحرة ثلاث حيض".

                                                فلما جاء هذا الاختلاف عنهم؛ ثبت أنه لا يحتج في ذلك بقول أحد منهم؛ لأنه متى احتج محتج في ذلك بقول بعضهم احتج مخالفه عليه بقول مثله، فارتفع ذلك كله أن يكون حجة لأحد الفريقين على الفريق الآخر.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي قيل لهؤلاء الذين احتجوا في قولهم: إن الأقراء هي الأطهار بآثار عائشة وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت -رضي الله عنهم-: نعم، الاحتجاج بهذه إنما يتم ويستقيم أي لو لم يختلف أصحاب رسول الله -عليه السلام- في ذلك فأما إذا اختلفوا فيه، فمنهم من قال ما ذكرتم، ومنهم من قال بخلافه لم تجب لكم بذلك حجة؛ لأنه إذا كان الأمر كذلك لا يتم الاستدلال لأحد الخصمين؛ لأن أحدهما إذا ادعى أن الأقراء هي الأطهار واحتج على ذلك بآثار تدل على مدعاه؛ ينتهض الخصم الآخر ويقول: بل الأقراء هي الحيض، ويستدل على ذلك بآثار تدل على مدعاه، [ ص: 80 ] فلا يحصل بهذا قطع في الاحتجاج، فحينئذ يرتفع هذا كله من أن يكون حجة لأحد الخصمين على الآخر، وهذا معنى قوله: "فلما جاء هذا الاختلاف عنهم أي عن الصحابة ... " إلى آخره.

                                                والصواب أن لا يقال في مثل هذا: إنه خلاف، بل يقال: إن هذا اختياره، وذلك لأن القرء لما كان لفظا مشتركا بين الحيض والطهر، وكان حقيقة في أحدهما عند قيام قرينة، ووردت أخبار تدل على المعنيين، اختارت طائفة أحد المعنيين، وطائفة المعنى الآخر بحسب ما قام عنده من الشاهد لذلك.

                                                ثم إنه أخرج مما يخالف ما رووه عن جماعة من الصحابة وهم: علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء وزيد بن ثابت .

                                                أما عن علي -رضي الله عنه- فأخرجه بإسناد صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح.

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" : نا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب، عن علي -رضي الله عنه- قال: "هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة".

                                                وأخرجه البيهقي في "سننه" من حديث سفيان ، عن الزهري ، عن ابن المسيب، أن عليا -رضي الله عنه- قال: "إذا طلق الرجل امرأته فهو أحق برجعتها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، في الواحدة والاثنتين".

                                                وأما عن عمر وعبد الله بن مسعود فأخرجه أيضا بإسناد صحيح ورجاله رجال الصحيح ما خلا عليا.

                                                وسفيان بن سعيد هو الثوري ، ومنصور هو ابن المعتمر، وإبراهيم هو النخعي.

                                                [ ص: 81 ] وأخرجه البيهقي في "سننه" من حديث سفيان الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة: "أن امرأة جاءت إلى عمر -رضي الله عنه- فقالت: إن زوجي طلقني، ثم تركني حتى رددت بابي ووضعت مائي، وخلعت ثيابي، فقال: قد راجعتك، قد راجعتك، فقال عمر لابن مسعود -وهو إلى جنبه-: ما تقول فيها؟ قال: أرى أنه أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة وتحل لها الصلاة، فقال عمر -رضي الله عنه-: وأنا أرى ذلك".

                                                وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" : نا عباد بن العوام ، عن جويبر ، عن الضحاك بن مزاحم: "أن امرأة تزوجت شابا، وطلقها تطليقة أو تطليقتين، قال: فأتاها وهي تغتسل من الحيضة الثالثة، فقال: يا فلانة، إني قد راجعتك، فقالت: كذبت، ليس ذلك إليك، فارتفعا إلى عمر بن الخطاب -وعنده عبد الله بن مسعود- فقال عمر: [ما ترى] يا أبا عبد الرحمن؟ قال: فقال: أنشدك بالله، هل كنت لطمتيه بالماء؟ قالت: ما فعلت، قال: فقال: خذ يدها".

                                                قوله: "فلما كانت الثالثة" أي الحيضة الثالثة.

                                                قوله: "قد راجعتك ثلاثا" أي قال ثلاث مرات: راجعتك، راجعتك، راجعتك.

                                                قوله: "فأجمع عمر وعبد الله" أي اتفق عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهما- على أن الزوج أحق بتلك المرأة ما لم تحل لها الصلاة؛ لأنها ما لم تحل لها الصلاة كانت عدتها باقية فتصح الرجعة فيها، فإذا حلت لها الصلاة خرجت العدة فلم يبق محل للرجعة.

                                                وأما عن عبد الله بن عمر فأخرجه أيضا بإسناد صحيح ورجاله كلهم رجال الصحيح.

                                                [ ص: 82 ] وأخرجه مالك في "موطئه" .

                                                وهذا اشتمل على أحكام:

                                                الأول: أن العبد لا يملك من الطلقات إلا ثنتين سواء كانت امرأته حرة أو أمة، فإذا طلق امرأته طلقتين حرمت عليه فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وفي هذا خلاف بيننا وبين الشافعي؛ فعنده عدد الطلاق معتبر بحال الرجل، وعندنا بحال المرأة حتى إن العبد إذا كانت تحته حرة يملك عليها ثلاث طلقات عندنا، وعنده لا يملك عليها إلا طلقتين، والحر إذا كانت تحته أمة لا يملك عليها إلا طلقتين عنده، وعندنا تلك عليها ثلاث طلقات، والمسألة مختلفة بين الصحابة؛ فروي عن علي وعبد الله بن مسعود مثل قولنا، وعن عثمان وزيد بن ثابت مثل قوله، وسيجيء الكلام فيه مستقصى.

                                                الثاني: أن عدة الحرة ثلاث حيض.

                                                الثالث: أن عدة الأمة حيضتان.

                                                الرابع: أن هذا يدل على أن الأقراء هي الحيض؛ وذلك لأن عبد الله بن عمر هو الذي كان روى عن رسول الله -عليه السلام- قوله لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "فتلك العدة هي التي أمر أن تطلق لها النساء"، ثم إنه جعل العدة الحيض، فدل ذلك أن الأقراء هي الحيض لا الأطهار.

                                                وأما عن معاذ وأبي الدرداء فأخرجه أيضا بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن أحمد بن خالد الكندي الوهبي، شيخ البخاري في غير الصحيح، عن محمد بن راشد الخزاعي أبي يحيى الشامي الدمشقي المعروف بالمكحولي، وعن أحمد : ثقة ثقة. وعن يحيى: ثقة صدوق. وعن شعبة: إنه لصدوق ولكنه شيعي أو قدري. روى له الأربعة، وهو يروي عن مكحول الشامي الدمشقي الفقيه.

                                                [ ص: 83 ] وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" : نا إسماعيل بن عياش عن عبيد الله الكلاعي ، عن مكحول: "أن أبا بكر وعمر وعليا وابن مسعود وأبا الدرداء وعبادة بن الصامت وعبد الله بن قيس الأشعري -رضي الله عنهم- كانوا يقولون في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين: إنه أحق بها ما لم تغتسل من حيضتها الثالثة، ويرثها وترثه ما دامت في العدة".

                                                وأما عن زيد بن ثابت فأخرجه بإسناد رجاله كلهم رجال الصحيح.

                                                ويونس الأول هو ابن عبد الأعلى ، ويونس الثاني هو ابن يزيد الأيلي ، وابن وهب هو عبد الله بن وهب ، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري .

                                                وقبيصة بن ذؤيب بن حلحلة الخزاعي أبو إسحاق المدني، ولد عام الفتح وسكن الشام، وعن الشعبي: قبيصة بن ذؤيب أعلم الناس بقضاء زيد بن ثابت. روى له الجماعة.

                                                وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" : نا إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن سليمان بن يسار: "أن نفيعا فتى أم سلمة طلق امرأته -وهي حرة- تطليقتين فحرصوا على أن يردوها عليه، وأبى عثمان وزيد. وقال سليمان: ويقول أحد غير هذا؟! فلما قدمت المدينة كتبت إلى أبي قلابة، فكتب إلي: أنه حدثني من أطمئن إلى حديثه أن زيد بن ثابت وقبيصة بن ذؤيب قالا: إذا كان زوجها حرا وهي أمة فطلاقه طلاق حرة وعدتها عدة أمة، وإن كان زوجها عبدا وهي حرة فطلاقه طلاق عبد وعدتها عدة حرة".

                                                فهذا مشتمل على حكمين:

                                                الأول: أن الطلاق إلى الرجال. وإليه ذهب الشافعي ومالك وأحمد، وقد قلنا: إنه مختلف فيه بين الصحابة.

                                                [ ص: 84 ] الثاني: أنه يدل على أن الأقراء هي الحيض وهذا ظاهر لا يخفى.




                                                الخدمات العلمية