[ ص: 12 ] - 2 - القرآن
من فضل الله على الإنسان أنه لم يتركه في الحياة يستهدي بما أودعه الله فيه من فطرة سليمة ، تقوده إلى الخير ، وترشده إلى البر فحسب ، بل بعث إليه بين فترة وأخرى رسولا يحمل من الله كتابا يدعوه إلى عبادة الله وحده ، ويبشر وينذر ، لتقوم عليه الحجة : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل .
وظلت الإنسانية -في تطورها ورقيها الفكري- والوحي يعاودها بما يناسبها ويحل مشكلاتها الوقتية في نطاق قوم كل رسول ، حتى اكتمل نضجها ، وأراد الله لرسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- أن تشرق على الوجود ، فبعثه على فترة من الرسل . ليكمل صرح إخوانه الرسل السابقين بشريعته العامة الخالدة ، وكتابه المنزل عليه ، وهو . . . القرآن الكريم . " مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية ، فجعل الناس يطوفون به ، ويعجبون منه ، ويقولون : لولا هذه اللبنة ، فأنا اللبنة ، وأنا خاتم النبيين "
فالقرآن رسالة الله إلى الإنسانية كافة وقد تواترت النصوص الدالة على ذلك في الكتاب والسنة : قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا . . تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، ، ولن يأتي بعده رسالة [ ص: 13 ] أخرى " وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس كافة " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين .
فلا غرو من أن يأتي القرآن وافيا بجميع مطالب الحياة الإنسانية على الأسس الأولى للأديان السماوية : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه . .
وتحدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العرب بالقرآن ، وقد نزل بلسانهم ، وهم أرباب الفصاحة والبيان ، فعجزوا عن أن يأتوا بمثله ، أو بعشر سور مثله ، أو بسورة من مثله ، فثبت له الإعجاز ، وبإعجازه ثبتت الرسالة .
وكتب الله له الحفظ والنقل المتواتر دون تحريف أو تبديل ، فمن جبريل الذي نزل به : أوصاف نزل به الروح الأمين ، ومن أوصافه وأوصاف المنزل عليه : إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين ، إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون . .
ولم تكن هذه الميزة لكتاب آخر من الكتب السابقة لأنها جاءت موقوتة بزمن خاص ، وصدق الله إذ يقول : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون .
وتجاوزت رسالة القرآن الإنس إلى الجن : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به . .
[ ص: 14 ] والقرآن بتلك الخصائص يعالج المشكلات الإنسانية في شتى مرافق الحياة ، الروحية والعقلية والبدنية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية علاجا حكيما ، لأنه تنزيل الحكيم الحميد ، ويضع لكل مشكلة بلسمها الشافي في أسس عامة ، تترسم الإنسانية خطاها ، وتبني عليها في كل عصر ما يلائمها ، فاكتسب بذلك صلاحيته لكل زمان ومكان ، فهو دين الخلود ، وما أروع ما قاله داعية الإسلام في القرن الرابع عشر : " ، يتناول مظاهر الحياة جميعا ، فهو دولة ووطن ، أو حكومة وأمة ، وهو خلق وقوة ، أو رحمة وعدالة ، وهو ثقافة وقانون ، أو علم وقضاء ، وهو مادة وثروة ، أو كسب وغنى ، وهو جهاد ودعوة ، أو جيش وفكرة ، كما هو عقيدة صادقة ، وعبادة صحيحة سواء بسواء " . الإسلام نظام شامل
والإنسانية المعذبة اليوم في ضميرها ، المضطربة في أنظمتها ، المتداعية في أخلاقها ، لا عاصم لها من الهاوية التي تتردى فيها إلا القرآن : فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى .
والمسلمون هم وحدهم الذين يحملون المشعل وسط دياجير النظم والمبادئ الأخرى ، فحري بهم أن ينفضوا أيديهم من كل بهرج زائف ، وأن يقودوا الإنسانية الحائرة بالقرآن الكريم حتى يأخذوا بيدها إلى شاطئ السلام . وكما كانت لهم الدولة بالقرآن في الماضي . فإنها كذلك لن تكون لهم إلا به في الحاضر .
: تعريف القرآن
" قرأ " : تأتي بمعنى الجمع والضم ، والقراءة : ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل ، والقرآن في الأصل كالقراءة : مصدر قرأ قراءة وقرآنا . قال تعالى : إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه . أي قراءته [ ص: 15 ] ، فهو مصدر على وزن " فعلان " بالضم : كالغفران والشكران ، تقول : قرأته قرءا وقراءة وقرآنا ، بمعنى واحد . سمي به المقروء تسمية للمفعول بالمصدر .
وقد خص القرآن بالكتاب المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- فصار له كالعلم الشخصي .
ويطلق بالاشتراك اللفظي على مجموع القرآن ، وعلى كل آية من آياته ، فإذا سمعت من يتلو آية من القرآن صح أن تقول إنه يقرأ القرآن : وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا . .
وذكر بعض العلماء أن تسمية هذا الكتاب قرآنا من بين كتب الله لكونه جامعا لثمرة كتبه ، بل لجمعه ثمرة جميع العلوم . كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ، وقوله : ما فرطنا في الكتاب من شيء . .
وذهب بعض العلماء إلى أن لفظ القرآن غير مهموز الأصل في الاشتقاق ، إما لأنه وضع علما مرتجلا على الكلام المنزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- وليس مشتقا من " قرأ " ، وإما لأنه من قرن الشيء بالشيء إذا ضمه إليه ، أو من القرائن لأن آياته يشبه بعضها بعضا فالنون أصلية ، وهذا رأي مرجوح ، والصواب الأول .
والقرآن الكريم يتعذر تحديده بالتعاريف المنطقية ذات الأجناس والفصول والخواص . بحيث يكون تعريفه حدا حقيقيا ، والحد الحقيقي له هو استحضاره معهودا في الذهن أو مشاهدا بالحس كأن تشير إليه مكتوبا في المصحف أو مقروءا باللسان فتقول : هو ما بين هاتين الدفتين ، أو تقول : هو من بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين . . . إلى قوله : من الجنة والناس . .
[ ص: 16 ] ويذكر العلماء تعريفا له يقرب معناه ويميزه عن غيره ، فيعرفونه بأنه : " ، المنزل على كلام الله محمد -صلى الله عليه وسلم- المتعبد بتلاوته " . فـ " الكلام " جنس في التعريف ، يشمل كل كلام ، وإضافته إلى " الله " يخرج كلام غيره من الإنس والجن والملائكة .
و " المنزل " يخرج كلام الله الذي استأثر به سبحانه : قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ، ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله .
وتقييد المنزل بكونه " على محمد صلى الله عليه وسلم " يخرج ما أنزل على الأنبياء قبله كالتوراة والإنجيل وغيرهما .
و " المتعبد بتلاوته " يخرج قراءات الآحاد ، والأحاديث القدسية -إن قلنا إنها منزلة من عند الله بألفاظها- لأن التعبد بتلاوته معناه الأمر بقراءته في الصلاة وغيرها على وجه العبادة ، وليست قراءة الآحاد والأحاديث القدسية كذلك .
"