وتأويل قوله - عز وجل -: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؛ روي أن خلقا يقال لهم: " الجان " ؛ كانوا في الأرض فأفسدوا؛ وسفكوا [ ص: 109 ] الدماء؛ فبعث الله ملائكته فأجلتهم من الأرض؛ وقيل: إن هؤلاء الملائكة صاروا سكان الأرض بعد الجان؛ فقالوا: يا رب؛ أتجعل فيها من يفسد فيها؛ ويسفك الدماء؛ ونحن نسبح بحمدك؛ ونقدس لك؟ وتأويل استخبارهم هذا على جهة الاستعلام وجهة الحكمة؛ لا على الإنكار؛ فكأنهم قالوا: " يا الله؛ إن كان هذا ظننا فعرفنا وجه الحق فيه " ؛ وقال قوم: المعنى فيه غير هذا؛ وهو أن الله - عز وجل - أعلم الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة؛ وأن من الخليقة فرقة تسفك الدماء؛ وهي فرقة من بني آدم؛ وأذن الله - عز وجل - للملائكة أن يسألوه عن ذلك؛ وكان إعلامه إياهم هذا زيادة في التثبيت في نفوسهم أنه يعلم الغيب؛ فكأنهم قالوا: " أتخلق فيها قوما يسفكون الدماء؛ ويعصونك؟ وإنما ينبغي إذا عرفوا أنك خلقتهم أن يسبحوا بحمدك؛ كما نسبح؛ ويقدسوا كما نقدس " ؛ ولم يقولوا هذا إلا وقد أذن لهم؛ ولا يجوز على الملائكة أن تقول شيئا تتظنى فيه؛ لأن الله (تعالى) وصفهم بأنهم يفعلون ما يؤمرون. وقوله - عز وجل -: إني أعلم ما لا تعلمون ؛ أي: أبتلي من تظنون أنه يطيع؛ فيهديه الابتلاء؛ فالألف ههنا إنما هي على إيجاب الجعل في هذا القول؛ كما قال جرير : [ ص: 110 ] ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
ومعنى " يسفك " : يصب؛ يقال: " سفك الشيء " ؛ إذا صبه؛ ومعنى " نسبح بحمدك " : نبرئك من السوء؛ وكل من عمل عملا قصد به الله؛ فقد سبح؛ يقال: " فرغت من تسبيحي " ؛ أي: من صلاتي؛ وقال ؛ وغيره من النحويين: إن معنى " سبحان الله " : براءة الله من السوء؛ وتنزيهه من السوء؛ وقال سيبويه الأعشى :
أقول لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر
المعنى: البراءة منه؛ ومن فخره.
ومعنى " نقدس لك " : أي: نطهر أنفسنا لك؛ وكذلك من أطاعك نقدسه؛ أي نطهره؛ ومن هذا: " بيت المقدس " ؛ أي: البيت المطهر؛ أو المكان الذي يتطهر فيه من الذنوب.