الأول: أما في حالة الوقف فيصير المد طبيعيا لجميع القراء؛ لأن انتفاء الهمز عند الوقف موجب للقصر، ووجوده عند الوصل كان سببا في زيادة المد، فلما انعدم الهمز بسبب الوقف انعدمت هذه الزيادة، هذا في المد المنفصل الحقيقي، نحو قوله تعالى: مقدار المد الزائد على القصر في المنفصل يكون في حالة الوصل فقط، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا [الإسراء: 85].
[ ص: 285 ] أما في المنفصل الحكمي في نحو: يا أيها الناس [البقرة: 21] فالمقدار الزائد على القصر ثابت في الوصل والوقف لعدم إمكان الوقف على "يا" من (يا أيها) ونحوها، وأما في صلة هاء الضمير نحو: ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [الكهف: 110] وكذا صلة ميم الجمع نحو: عليكم أنفسكم [المائدة: 105] فمقدار المد فيه ثابت في الوصل فقط، أما في الوقف فيحذف المد مطلقا؛ لأن الهاء والميم سكنتا للوقف، وبسكونهما انعدمت الصلة التي هي المد، فتأمل.
الثاني: إذا اجتمع مدان متصلان أو أكثر كما في قوله تعالى: الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنـزل من السماء ماء [البقرة: 22] الآية - فلا يجوز التفرقة بينهما في المد بحجة جواز الوجهين في كل منها، بل تجب التسوية في الكل إما بالحركات الأربع في الجميع أو بالخمس فيها، وكذلك الحكم بعينه فيما اجتمع مدان منفصلان أو أكثر كما في قوله تعالى: يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نـزلنا مصدقا لما معكم [النساء: 47] الآية.
فلا تجوز التفرقة بين هذه المدود بحجة جواز الوجهين أيضا، بل تجب التسوية بينها، بأن يكون المنفصل الثاني وما بعده مساويا للأول توسطا كان أو فويقه؛ لأن التسوية في هذا وذاك من جملة التجويد، وهذا ما أشار إليه الحافظ ابن الجزريفي المقدمة الجزرية بقوله: "واللفظ في نظيره كمثله".
الثالث: زاد الدكتور محمد سالم محيسن في كتابه "الرائد في تجويد القرآن" مرتبة الإشباع، وقدرها ست حركات لحفص عن في المد المتصل - على ما ذكرناه له من مرتبة التوسط - وقدرها أربع حركات، ومرتبة فويق التوسط التي هي خمس حركات، فيكون لحفص على قوله ثلاث مراتب في المد المتصل، هي: التوسط وفويق التوسط والإشباع، كما زاد له في الكتاب نفسه مرتبة القصر في المد المنفصل، وقدرها حركتان على ما ذكرناه له من مرتبة التوسط وفويق التوسط [ ص: 286 ] كذلك، وعليه فيصير لحفص في المد المنفصل وفق قوله ثلاث مراتب أيضا، هي: القصر والتوسط وفويق التوسط، وقد أطلق هذه الوجوه فقال في المد المتصل - ص (28) من الكتاب المذكور - : "واعلم أن المد المتصل يمد أربع حركات أو خمسا أو ستا" وذلك بعد أن ذكر المد المنفصل، وقال فيه: "واعلم أن المد المنفصل يجوز مده حركتين أو أربعا أو خمسا" اهـ. عاصم
ولا ريب أن إطلاق الزيادة بالإشباع لحفص في المد المتصل أو بالقصر له في المد المنفصل على هذا النحو الذي تضمنه كلام الدكتور ليس صوابا؛ ذلك أن مرتبة الإشباع هذه التي زادها الدكتور لحفص في المد المتصل لم ترد عنه من طريق الشاطبية الذي هو طريق عامة الناس، وإنما تصح له - كبقية القراء العشرة - من طريق طيبة النشر في قول، وكذلك فإن قصر المنفصل لحفص لم ينقل عنه من طريق الشاطبية كذلك، ولكن ثبت له من طريق طيبة النشر في قول كذلك.
وطريق طيبة النشر هذا سواء أكان في مرتبة الإشباع في المتصل لحفص أم كان في مرتبة القصر له في المنفصل لا يسلكه إلا العارفون من خواص أهل هذا الشأن؛ لدقته وكثرة ما يترتب عليه من الأحكام العلمية والعملية في الأداء، وهي صعبة متعذرة على غير المتخصص الواعي كما سنبينه بعد.
وكان الواجب على فضيلة الدكتور أن يوضح تلك الأحكام للقراء ما دام على علم بها، كما هو الظن به، فإن صاحب العلم لا يسعه كتمانه، لا سيما إذا كان ذلك العلم متعلقا بالكتاب العزيز.
وما دام قد قال بوجهي الإشباع في المتصل والقصر في المنفصل لحفص - فإن عدم إيضاحه ذلك للقراء يوهم أن الإشباع لحفص في المتصل والقصر له في المنفصل يأتيان على ما له من الأحكام المعروفة لدى عامة الناس، وليس كذلك؛ لأن القارئ إذا قرأ بالإشباع [ ص: 287 ] في المتصل لحفص أو بالقصر له في المنفصل حسبما ذكر الدكتور لزمه العلم بالأحكام الواجب اتباعها حال الأداء؛ لكونها لا يجوز مخالفتها بحال، وهذه الأحكام كثيرة، ليس محل ذكرها هنا؛ لأن في ذكرها تشويشا على المبتدئين، ولكن لا بأس بذكر شيء منها ليعلم القارئ خطأ إقحام مثل هذا على ما عرفه عامة الناس فيتورع عنه، إلا إذا علم ذلك يقينا، كأن يأخذه عن طريق التلقي والرواية والإسناد عن الشيوخ المحققين الآخذين ذلك عن شيوخهم، وذلك أعلى درجات العلم متى شهدت لهم بصحته المصادر العلمية المعتبرة، وعندئذ فلا حرج على من تحصل له ذلك أن يقرأ بهذا وبغيره مما جاء من طريق طيبة النشر لحفص، وفيما يلي بعض تلك الأحكام.
بعض الأحكام التي تجب لحفص حال الإشباع في المتصل من طريق طيبة النشر
تمهيد: من القواعد المقررة أن مرتبة الإشباع في المد المتصل لحفص من طريق طيبة النشر يأتي عليها المراتب الأربع التي في المد المنفصل من الطريق المذكور، وهي القصر وفويقه والتوسط وفويقه، فالقصر حركتان، وفويق القصر ثلاث حركات، والتوسط أربعة حركات، وفويق التوسط خمس.
أما مرتبتا القصر والتوسط في المنفصل فسنتكلم عليهما عند الكلام على قصر المنفصل.
وأما مرتبتا فويق القصر وفويق التوسط اللتان في المنفصل أيضا فسنترك الكلام عليهما وعلى ما يترتب عليهما من أحكام؛ لما وعدنا به هنا من أننا سنذكر بعض الأحكام فقط رغبة في الاختصار، ومراعاة لحال المبتدئين.
ومما يجب معرفته أيضا أن من بقاء الغنة حال إدغام النون الساكنة والتنوين في اللام والراء، والأخذ بمرتبة السكت [ ص: 288 ] العام، وهو السكت على الساكن الصحيح وشبهه قبل الهمز، وهو مشروط بعدم التنفس، ويشمل أربعة أصول مطردة في التنزيل وهي كما يلي: الأحكام التي تختص بها مرتبة الإشباع في المد المتصل
الأصل الأول: السكت على "أل" كقوله تعالى: والأرض وضعها للأنام [الرحمن: 10].
الأصل الثاني: السكت على كلمة "شيء" مطلقا، سواء كانت منصوبة كقوله تعالى: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [يس: 82] أم مجرورة كقوله تعالى: إنا كل شيء خلقناه بقدر [القمر: 49] أم مرفوعة كقوله سبحانه: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [الشورى: 11].
الأصل الثالث: السكت على الساكن المفصول كقوله تعالى: إن أنت إلا نذير [فاطر: 23].
الأصل الرابع: السكت على الساكن الموصول كقوله سبحانه: واسألوا الله من فضله [النساء: 32].
وأما الساكن شبه الصحيح قبل الهمز فمحله الواو والياء الساكنتان المفتوح ما قبلهما المعروفتان بحرفي اللين، كما تقدم في غير موضع، وهذان الحرفان تارة يكونان في الساكن المفصول نحو: خلوا إلى [البقرة: 14] ابني آدم [المائدة: 27] وتارة يكونان في الساكن الموصول نحو: كهيئة الطير [المائدة: 110] " السوء " [الفتح: 6، 12].
هذا، ونلفت نظر القارئ الكريم إلى أن السكت إذا كان في الساكن [ ص: 289 ] الموصول نحو جزء مقسوم [الحجر: 44] بين المرء [البقرة: 102] من الأمر شيء [آل عمران : 128] دائرة السوء [التوبة: 98] من كل لفظ بقي فيه بعد الساكن الهمز وحده فلا يجوز فيه السكت إن وقفت عليه بالسكون لالتقاء الساكنين، وعدم الاعتماد في الهمز على شيء، ومثل الوقف بالسكون في هذا النوع الوقف بالإشمام فيه أيضا، فلا يتأتى معه السكت، أما إذا وقفت بالروم فيما يصح فيه فيجوز الوقف بالسكت حينئذ.
ومن المقرر أن الروم يكون في المرفوع والمجرور ولا يكون في المنصوب نحو: يخرج الخبء [النمل: 25] فلا يكون فيه الوقف بالسكت بحال، لما تقدم، ويتعين فيه الوقف بالسكون من غير سكت، ولو كان السكت جاريا في مثله.
أما المنصوب المنون نحو جزءا [البقرة: 260] فلا يدخل فيه، فيصبح فيه السكت وقفا؛ لأنه صار متوسطا بإبدال التنوين ألفا كما هي القاعدة، فتأمل هذا جيدا.
وقد أشار شيخ شيوخي العلامة المتولي إلى ما ذكرناه في هذه المسألة في الروض النضير بقوله:
وفي نحو دفء من يقف ساكتا يرم وللسكت كن يخرج الخبء مهملا
اهـإذا تقرر هذا فاعلم أيها القارئ أنك إذا قرأت بتوسط المنفصل وبالإشباع في المتصل - وهذا من طريق أبي طاهر عن عن الأشناني، عبيد من كتاب إرشاد المبتدي، وتذكرة المنتهي في القراءات العشر لأبي العز القلانسي - تعين عليك حال الأداء الأخذ بالأحكام الآتية:
[ ص: 290 ] 1 - وجوب الأخذ بالتحقيق، أي بترك السكت على الساكن قبل الهمز، وقد تقدم الكلام على هذا السكت مع الأمثلة قريبا.
2 - وجوب الأخذ بترك الغنة عند إدغام النون الساكنة والتنوين في اللام والراء، وقد تقدمت الأمثلة لذلك.
3 - وجوب الأخذ بوجه السين فقط في ويبسط بالبقرة، وكذلك في الخلق بسطة بالأعراف.
4 - وجوب الأخذ بوجه الإبدال فقط في " آلذكرين " [الأنعام: 143، 144] وبابه، وتقدم الكلام على ذلك.
5 - وجوب الأخذ بوجه الإدغام فحسب في يلهث ذلك بالأعراف، وكذلك في اركب معنا بهود عليه السلام.
6 - وجوب الأخذ بوجه الإشمام فقط في لا تأمنا بيوسف عليه السلام.
7 - وجوب الأخذ بوجه الإدراج، أي بترك السكت في عوجا بالكهف، وكذلك في مرقدنا بيس.
8 - وجوب الأخذ بوجه القصر، أي بحركتين في "العين" من فاتحة مريم والشورى.
9 - وجوب الأخذ بالتفخيم وجها واحدا في راء فرق بالشعراء.
[ ص: 291 ] 10 - وجوب الأخذ بوجه القصر، أي بحذف الياء وقفا في آتاني الله خير بالنمل.
11 - وجوب الأخذ بوجه فتح الضاد فقط في كلمة ضعف [الروم: 54] معا، وفي كلمة ضعفا [الروم: 54] والكلمات الثلاث في سورة الروم.
12 - وجوب الأخذ بوجه إظهار النون من يس والقرآن فاتحة سورة يس، وكذلك في ن والقلم فاتحة سورة القلم.
13 - وجوب الأخذ بوجه السين فحسب في المصيطرون بالطور.
14 - وجوب الأخذ بوجه السكت وجها واحدا على النون في من راق بالقيامة، وكذلك على اللام في بل ران بالمطففين.
15 - وجوب الأخذ بالقصر، أي بحذف الألف الثانية وقفا لا غير في كلمة سلاسل بسورة الإنسان.
16 - وجوب الأخذ بوجه الصاد فحسب في كلمة بمصيطر بسورة الغاشية.
17 - وجوب الأخذ بوجه عدم التكبير مطلقا، أي سواء كان عند سور الختم أم في سائر القرآن، ويستوي في ذلك البدء بأوائل السور أو عند وصل السورة السابقة باللاحقة، وسيأتي الكلام مستوفى على التكبير في باب خاص آخر الكتاب - إن شاء الله - ولنكتف بذكر هذه الحالة؛ طلبا للاختصار.