وكانت معاملتهم لموسى الهادي الرشيد معاملة غير رفيقة، يحملونه إثم ما ينزل بهم من شر، وما ينزل بهم من حسن يحسبونه استحقاقا لهم; ولذا قال الله تعالى فيهم: فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون .
(الحسنة ) هي الحال الحسنة التي يستحسنونها ويستطيعونها، ويرون فيها مسرة لهم، لم يذكروا أنها من عند الله تعالى، أفاض بها عليهم من عنده، إنما يحسبون أنها جاءتهم؛ لأنها لهم ويستحقونها، وجاءتهم من غير معط; ولذا وصفهم الله تعالى بقوله: فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه أي: لنا نستحقها، ولا يتصورون معطيا يستحق الشكر والطاعة والرضا بما أعطى، وإذا جاءتهم السيئة أي: الأمر المسيء لهم من قحط وجدب وطوفان اطيروا بموسى ومن معه أي: تشاءموا.
وأصل الطيرة في الاستعمال العربي أنهم كانوا يزعجون الطير، فإذا اتجه إلى اليمين تيمنوا به وسموه السانح، وإذا اتجه إلى الشمال تشاءموا به وقالوا البارح.
ولقد جاء في تفسير القرطبي ما يتعلق بالتطير: "وكانوا يتطيرون أيضا بصوت الغراب، ويتأولونه البين، وكانوا يستدلون بمجاوبات الطيور بعضها بعضا على أمور، وبأصواتها في غير أوقاتها المعهودة على مثل ذلك، وهكذا الظباء إذا مضت سانحة أو بارحة، ويقولون: إذا برحت بالسانح بدل البارح، إلا أن أقوى ما عندهم كان يقع في جميع الطير فسموا الجميع تطيرا من هذا الوجه.
وتطير الأعاجم إذا رأوا صبيا يذهب به إلى المعلم بالغداة، ويتيمنون برؤية صبي يرجع من عند المعلم إلى بيته، ويتشاءمون برؤية السقاء على ظهره قربة مملوءة مشدودة، ويتيمنون برؤية فارغ السقاء (مركبة) مفتوحة" وهكذا كما جاء في ذلك التفسير. وعلى أي حال: التشاؤم. التطير في اللغة العربية
[ ص: 2935 ] وإن المصريين قد قالوا هذا المعنى مواجهين موسى - عليه السلام - وعبر عنه بذلك التعبير العربي، وكأنه ترجمة لتعبيرهم في لغتهم.
ولقد أجابهم بقوله كما حكى القرآن الكريم: إنما طائرهم عند الله أي: إن ذلك قضاء الله تعالى وقدره فيكم، وعبر عنه بطائركم تشبيها للقدر المحتوم بالطائر المشئوم; لأنه في معناه لاحق بهم، فإن تعدوه شؤما فهو من سوء عملكم، وختم الآية بقوله تعالى: ولكن أكثرهم لا يعلمون أي: لا يعلمون أن كل شيء عند ربك بمقدار، فيتشاءمون; ولذا نفى النبي - صلى الله عليه وسلم - الطيرة، وقال: " " أي: لا عدوى إلا بإذن الله تعالى العلي القدير. لا عدوى ولا طيرة
ومع أن الله تعالى قد ابتلاهم بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون ويطمئنون إلى الله الذي هو منشئ العالم، وأنه ليس لفرعون أية ألوهية، ومع ذلك أصروا على كفرهم، ورموا موسى بأن هذا الابتلاء سحر يسحرهم به موسى ، وأنهم لا يؤمنون; ولذا قال الله تعالى عنهم: