فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم
* * *
الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر، والمعنى إذا كان قطع اليد هو العقوبة الرادعة، فإن التوبة تجبها وتقطعها في الدنيا والآخرة، أو في الآخرة فقط، فمن أقلع عن الذنب وأحس بالندم على ما ارتكبه، واعتزم على ألا يعود إليه، فإن الله سبحانه وتعالى يقبل توبته، وعبر سبحانه وتعالى عن قبوله توبته بقوله: فإن الله يتوب عليه
أي أنه جلت قدرته، وتعالت عظمته يقابل عمله القلبي في التوبة، والعمل الخارجي بالإصلاح ومنع الإفساد، بعمل من جانبه سبحانه وهو أنه يتوب عليه، أي يعينه على التوبة ويقبلها، فقوله تعالى: فإن الله يتوب عليه يتضمن ثلاثة معان؛ أولها: المعاونة على التوبة إذا أخلص العبد، وخلص العمل له سبحانه، وأصلح في الأرض بعد الإفساد فيها. وثانيهما: قبول التوبة، وثالثها: تطمين التائب بتأكيد القبول.
وذكر سبحانه أن لأن الإذعان القلبي لا يكون كاملا وناميا إلا إذا اقترن به العمل الصالح، لأنه يزكيه ويسقيه. التوبة الخالصة لا بد أن تقترن بالإصلاح;
والتعبير بقوله تعالى: من بعد ظلمه إشارة إلى أن السرقة خاصة وارتكاب الذنوب عامة ظلم كبير، وقوله تعالي: وأصلح فيه إشارة إلى أن السرقة إفساد في الأرض والأمانة إصلاح أي إصلاح.
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بإثبات رحمته، وأنه سبحانه من صفاته الثابتة الغفران فقال: إن الله غفور رحيم أي أن الله يتوب على عبده إذا أذنب؛ [ ص: 2179 ] لأن من صفاته أنه غفور كثير الغفران يتجاوز عن السيئات، ويكافئ على الحسنات؛ لأن ذلك مقتضى رحمته، وهو الرحيم الدائم الرحمة، وقد أكد سبحانه ذلك فضل تأكيد بـ"إن"، وبإعادة لفظ الجلالة.
وقد أشرنا من قبل إلى أن كثيرين من الفقهاء يقولون: إن التوبة تسقط الحد، وكانت هذه الآية الكريمة: فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه من شواهد ذلك.
والقول الجلي في هذا أن ولكن الخلاف القائم بين الفقهاء في التوبة إذا كانت بعد الترافع وإثبات السرقة، فقد قال التوبة قبل الترافع إلى السلطان إذا صحبها رد المسروق إلى مالكه تمنع إقامة الحد بالاتفاق، أبو حنيفة : إن التوبة لا تسقط الحد؛ لأن الأمر بالقطع عام يشمل التائب وغير التائب، والتوبة المنصوص عليها في هذه الآية هي ما يكون بعد إقامة الحد وقطع اليد، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ومالك "إذا قطعت يد السارق فتاب سبقته يده إلى الجنة، وإن لم يتب سبقته يده إلى النار" وفوق ذلك فإن التوبة في السرقة كالتوبة في الزنا لا تسقط "الحد"، ولقد أقام النبي -صلى الله عليه وسلم- حد الزنا، وقال في امرأة أقام عليها الحد: وفوق هذا وذاك "لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم". [ ص: 2180 ] وقال أكثر الشافعية والحنابلة: التوبة تمنع إقامة الحد وأقاموا على ذلك الأدلة الآتية: الحد كفارة للذنوب في الدنيا والكفارات تجب مع التوبة.
أ- قوله تعالى: فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح وهذا النص مقترن بقوله تعالى: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما فكان مخصصا للعموم في الأمر بالقطع، وإلا ما اقترن به.
ب- أن الله تعالى اعتبر التوبة مانعة من إقامة حد الحرابة، والحرابة فيها جرائم سرقة وقتل وسرقاتها كبيرة، فكيف تقبل التوبة في السرقات الكبرى، ولا تقبل في الصغرى.
ج- ما ورد في الآثار الصحاح مما يثبت أن التوبة تجب ما قبلها، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له".
د- أن التوبة السريعة تدل على أن النفس لم تدنس بالرجس، وقد قال تعالى في تحقيق هذا المعنى: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب [النساء].
والذي نراه في هذا الموضوع أننا نأخذ برأي الإمامين أبي حنيفة في الذين يعدون عائدين، فإن هؤلاء لا تقبل منهم توبة. ولا تأخذ العدالة فيهم رأفة، أما الذين لم يكونوا عائدين، فإن التوبة تعفيهم من العقاب إقالة لعثرتهم، ونأخذ في أمرهم برأي أكثر الشافعية والحنابلة. ومالك
وإذا كان لنا أن نطالب بإقامة حدود الله، وهو واجب علينا، فإننا إذا طالبنا بإقامة حد السرقة نطالب به في الحدود الآتية: [ ص: 2181 ] أولها: أن يقام الحد على السراق العائدين ليكونوا عبرة المعتبرين.
الثاني: ألا يقام الحد إلا في الحال التي اتفق الأئمة على إقامتها فيه، فلا يقام الحد، وبعض الأئمة لا يرى إقامته.
الثالث: ألا توجد أي شبهة في الإثبات أو في غيره، والله سبحانه بكل شيء عليم، ولقد قال سبحانه:
* * *