[ ص: 2114 ] قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين
* * *
الكلام موصول في شأن بني إسرائيل عندما طلب إليهم موسى -عليه السلام- أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله عليهم أن يدخلوها، فقد أجابوا راهبين خائفين بأن فيهم قوما أشداء عمالقة، وأنهم لن يدخلوها ما دام هؤلاء، وهم يتكلون على الله تعالى في إخراجهم، كأن الله تعالى يخرجهم من غير عمل يعملونه وذلك لأن خنوعهم لحكم فرعون أمات فيهم روح الهمة والنخوة والمغالبة، ولأنهم أحرص الناس على الحياة، أي حياة كانت، كما قال تعالى: ولتجدنهم أحرص الناس على حياة [البقرة]، ومع هذا التخاذل في جماعتهم كان فيهم من يريد أن يتقدم، ولكنهم نادرون، وليسوا كثيرين; ولذلك قال الله فيهم:
قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا هذان رجلان من بني إسرائيل أعطيا نعمة الصبر وقوة الإيمان، قد خالفا الذين قالوا: لن ندخلها حتى يخرجوا، وقد ذكر المفسرون اسم الرجلين، كما جاء في التوراة، والآية لا تحتاج في فهمها إلى اسميهما، ولكن تحتاج إلى معرفة أوصافهما، ومؤدى قولهما، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى لهما وصفين: أحدهما: أنهم من الذين يخافون، وثانيهما: أن الله أنعم عليهما. [ ص: 2115 ] أما الأول: فقد قال تعالى فيه أنهم "يخافون" ولم يذكر الأمر المخوف، ولذلك كان للعلماء في تقدير المفعول تخريجان: أحدهما: أن يقدر المحذوف في الذكر هو الله سبحانه وتعالى، والمعنى يخافون الله ويتقونه، ويرجحون تقواه، والخوف من عصيانه على الخوف من أعدائه، ولو كان ذوي بطش شديد، أو جبارين في الأرض، فكل قوة مهما عظمت تصغر بجوار قوة الله تعالى.
والتخريج الثاني: أن يكون المعنى يخافون الأعداء ويقدرون قوتهم، ولكن أنعم الله تعالى عليهم بطاعة الله تعالى.
وذكر وجها آخر، وقد تبعه فيه الكثيرون، وهو أن المراد من الذين يخافون هم بعض الجبارين، والاسم الموصول موضوعه الجبابرة، والضمير محذوف يعود إلى بني إسرائيل، ويكون المعنى على ذلك أن رجلين من الجبارين الذين يخافهم بنو إسرائيل ويرهبونهم، قالوا ادخلوا عليهم، ويكون على هذا التفسير معنى أنعم الله عليهما أنه أنعم عليهما بنعمة الإيمان. الزمخشري
وقد رجح ذلك بأمرين: أولهما: أن هناك قراءة بضم الياء "يخافون" وهذا يتعين أن يكون المراد اثنين من الجبارين، وإحدى القراءتين تكون مفسرة للأخرى، والثاني: الزمخشري أنعم الله عليهما فإن الظاهر منها في هذا المقام هو نعمة الإيمان، وذلك لمن يكونون غير مؤمنين وقد صاروا مؤمنين، ولكن ذلك الأمر غير مؤكد; لأنها ليست مقحمة على التفسير الأول، بل لها معناها، وهو أن الله أنعم على الرجلين اللذين قالا الحق من بني إسرائيل بنعمة الصبر، وقوة العزيمة والهمة، فوق نعمة الطاعة وتجنب المعصية.
ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون هذه مقالة الرجلين اللذين أنعم الله تعالى عليهما فيما حكى الله تعالى عنهما، أراد ذانكم الرجلان أن يزيلا خوف بني إسرائيل من أهل هذه الأرض إذ إنهم أجسام ليس فيها قلوب قوية، [ ص: 2116 ] وقد ذكر ما يصور أنه مقالتهم، فقال: "قالوا لجماعة بني إسرائيل: إن الأرض مررنا بها وجسسناها صالحة رضيها ربنا فوهبها لنا، وإنها لم تكن تفيض لبنا وعسلا، ولكن افعلوا واحدة، ولا تعصوا الله ولا تخشوا الشعب الذين بها، فإنهم جبناء مدفوعون في أيدينا، إن حاربناهم ذهبت منهم، وإن الله معنا فلا تخشوهم". ابن جرير الطبري
ويظهر أن هذه العبارات مصدرها إسرائيلي; لأنها تتقارب مع نصوص التوراة التي بأيديهم، ومهما تكن صحة النسبة في هذه الأقوال، فإن الآية الكريمة لها مدلولها بعباراتها التي حكاها سبحانه وتعالى عنهم، فإن معنى قوله تعالى: ادخلوا عليهم الباب أي فإذا دخلتموه فإنكم غالبون، ادخلوا مفاجئين لهم فاتحين عليهم الباب، فإنهم عندئذ يصيبهم الذعر، وتأخذهم الفجاءة، ويتحيرون، فتأخذهم السيوف، وتكونون أنتم الغالبين، وفي العبارة ما يفيد تأكيد الغلب; لأنه عبر عن الغلب بالجملة الاسمية، وإن التي تؤكد القول.
ولا شك أن غزو قوم في دارهم فجاءة يؤدي إلى هزيمتهم، ولقد قال في ذلك بطل الحروب : "ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا". علي بن أبي طالب
وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين وتفويض إليه، وقد بين الرجلان كما حكى سبحانه عنهما العمل الحاسم، وهو الدخول المفاجئ، والثاني هو التوكل على الله تعالى وحده حق التوكل، وألا يعتمد على أحد سواه، وألا يرجى النصر إلا منه، ولذلك قدم الجار والمجرور في قوله تعالى: قوة النصر تعتمد على أمرين: أولهما: عمل حاسم وعزم أكيد، وثانيهما: تأييد من عند الله، وتوكل عليه وعلى الله فتوكلوا أي على الله وحده توكلوا أي هو وحده النصير: وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم [آل عمران ]. وإن مجيب لما يأمر وينهى; ولذلك قرن التوكل بقوله: التوكل الحق لا يكون إلا من قلب مذعن مؤمن بالله مخلص له، إن كنتم مؤمنين [ ص: 2117 ] وفي ذلك إشارة إلى أن مقتضى الإيمان أن يعملوا ويجيبوا، وأن يدعوا وساوس الخوف، وأن يشعروا بأن الله معهم، وهو فوق كل جبار، وفي ذلك حث على العمل الحاسم، والعزيمة الثابتة.
* * *