(تفسير القرآن بالرأي )
ابن تيمية وبعض علماء السلف يقصرون التفسير على ما يكون بالرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويمنعون التفسير بالرأي ، ويستدلون على ذلك بما يأتي : [ ص: 31 ] أولا : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند ابن تيمية : ، وقوله عليه الصلاة والسلام : " من قال في القرآن بغير علم فليتبؤأ مقعده من النار " . " من قال في القرآن برأيه ، وأصاب فقد أخطأ "
ثانيا : شدد أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في منع ، ويروون في ذلك عن الأخذ بالرأي في معاني القرآن أنه قال : (أي أرض تقلني ، وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لم أعلم ) . أبي بكر
ثالثا : وكان التابعون يتحرجون في القول في التفسير إلا أن تكون الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو الصحابة ، ولقد قال : " اتقوا التفسير فإنه الرواية عن الله " . وهكذا نرى طائفة من علماء السلف يمنعون التفسير بالرأي المجرد ، مسروق وابن تيمية يوضح آراءهم ويؤيدها مشددا فيها ، ونحسب أن المبرر الذي جعل ابن تيمية يتشدد في ذلك هو سد الذريعة لمنع الأوهام التي وجدت بتفسير بعض الإمامية ، والإسماعيلية ، والباطنية ، فقد رويت تفسيرات سموها باطن القرآن وجعلوا للباطن باطنا ، حتى وصلوا إلى سبعة بواطن ، فكان منع التفسير بالرأي دفعا لهذه الأوهام الباطنية التي أفسدت المعاني القرآنية بتأويلات لا برهان عليها .
فإذا كان الإسرائيليون قد أدخلوا على التفسير ما ليس بمعقول ولا مقبول ، فالباطنيون قد أدخلوا بتأويلاتهم وبواطنهم ما ليس من التفسير في شيء ، والله حافظ كتابه من الفريقين ، وهو بنوره الساطع يلفظ الخبث كما يلفظ الفلز في كير النار خبثه
[ ص: 32 ] أجاز التفسير بالرأي ، وفتح الباب ، ولكن قبل أن نقدم إسناده من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة نحرر رأيه ، فهو : والغزالي
أولا : لا يهمل السنة ولا آثار الصحابة وأقوالهم ، ويقرر أن ما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة بسند صحيح لا تصح مخالفته ، ويجب الأخذ به .
ثانيا : لا يفتح الباب على مصراعيه لكل من يرى رأيا فيفسر القرآن برأيه ، بل يجب أن يكون عنده علم اللغة ، وعلم القرآن ، وعلم السنة ، لكيلا يقول على الله تعالى بغير علم .
وإن الفهم في كتاب الله تعالى باب متسع لكل من عنده أداة الفهم لعلم القرآن ، ويستدل على ذلك بنصوص من القرآن والسنة وأقوال الصحابة :
(أ ) إن القرآن الكريم فيه كل علوم الدين بعضها بطريق العبارة ، وبعضها بطريق الإشارة ، وبعضها بالإجمال ، وبعضها بالتفصيل ، وإن ذلك يحتاج إلى التعمق في الفهم ، والاستبصار في حقائقه . وذلك لا يكفي فيه الوقوف عند ظواهر التفسير التي تجيء على ألسنة بعض السلف ، بل لا بد من التعمق ، واستخراج المعاني ما دامت لا تخالف صريح المأثور ، ولكنها أمور تسير وراءه ، وعلى ضوئه وعلى مقتضى هديه ; ولذا قال رضي الله عنه : " من أراد علم الأولين والآخرين ، فليتدبر القرآن " وإن ذلك لا يكون بغير التعمق في الفهم والتعرف بالإشارة للمرائي البعيدة والقريبة من غير اقتصار على ظاهر النصوص . عبد الله بن مسعود
(ب ) إن في القرآن بيان صفات الله سبحانه وتعالى ، وذكر ذاته القدسية وأسمائه الحسنى ، وإن معرفة ذلك مع التنزيه وعدم المشابهة للحوادث يحتاج إلى تدبر وبيان ليعرف القارئ لكتاب الله تعالى أنه سبحانه وتعالى منزه نزاهة مطلقة عن المشابهة للحوادث .
(جـ ) إنه قد وردت آثار كثيرة تدعو إلى الفهم والتدبر ، فقد قال - كرم الله وجهه - : " من فهم القرآن فسر به جمل العلم " ، وقال رضي الله عنه : " ما [ ص: 33 ] أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا كتمه عن الناس إلا أن يؤتي الله عبدا فهما في كتابه " . علي
(د ) إن عبارات القرآن تدعو إلى فهمه فقال تعالى : ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا فقد قال فقهاء السلف إن الحكمة هي فهم القرآن ، وإذا كان فهم القرآن خيرا كثيرا ، فإنه سبحانه يدعو القادرين على الفهم للبحث والتأمل والنظر في الآيات وفهمها .
ولقد قال تعالى : ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم وفي هذا دعوة إلى الاستنباط ، واستخراج المعاني العميقة ، كما يستنبط الماء من الآبار ، وفيه إشارة إلى وجوب تعرف معاني القرآن بالفهم بصحيح كما يتعرفونها بالآثار الصحيحة ، فهما طريقان مستقيمان ، فمن منع أحدهما فقد خالف العقل والنقل .
(هـ ) إن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا رضي الله عنهما بالفهم في القرآن فقال : " لعبد الله بن عباس " وليس التأويل إلا فهم مرامي العبارات والمآل والمكان للمعاني التي تشتمل عليها ألألفاظ وجمل القول . ولو كان التفسير مقصورا على ما ورد من أقوال النبي لقال عليه الصلاة والسلام : " حفظه " . اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل
لا يقف في استدلاله عند تأثير التفسير بالرأي ، بل ينقد أدلة الوقافين الذين يقفون عند المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين لا يعدونهم - وينقدهم من وجوه : والغزالي
أولها : أنه لكي يصح الوقوف على تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجب أن يكون كل ما نأخذ به من تفسير مسندا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو ثابتا بالضرورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 34 ] بأن يقول التفسير صحابي أو تابعي ، ولا يتصور أن يكون ذلك من غير النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس للرأي فيه مجال ، فإذا كان للرأي فيه مجال فاحتمال أن يكون ذلك من رأي الصحابي أو التابعي ، وخصوصا أنه في عهد التابعين أدخلت الإسرائيليات ، ونقل حمولة زاملتين في موقعة عبد الله بن عمرو بن العاص اليرموك ، وإن ما نقل لنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تفسير ليس كل التفسير ، ولا جله .
ثانيها : أن الراجح أن تفسير الصحابة الذين قالوه لم ينسبوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فكان من المحتمل أن يكون بآرائهم ، وإن كان لها فضل الاقتباس من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإن واجب الاقتداء بهم أن نفسر بالرأي مثلهم مسترشدين بأقوالهم في فهم الآيات كما نسترشد بآرائهم في الفقه ، وفي معاني الألفاظ العربية .
ثالثها : أن الصحابة اختلفوا ، وكذلك التابعون ، وسماع كل هذه الأقوال محال ، فلا بد أن يكون بعضها صحيحا وبعضها غير صحيح . ولو كان بعضها مسموعا لوجب رد الباقي ، ولا يمكن معرفة ما يرد وما يبقى ; لأن المسموع منها غير متميز ولا معين ، ويؤدي هذا إلى أن بعض هذه الأقوال كان بالرأي ، وأن المتبع للآثار ولا يعدوها لا يكون له مناص من أن يختار من هذه الأقوال المختلفة ، وأن ذلك سيحمله على أن يعمل الرأي في تخير ما يختار ، ويكون المتبع قد فر من الرأي ابتداء ثم وقع فيه انتهاء .
ويبين موضع النهي عن الرأي في فهم القرآن فيرى أنه في موضعين : أولهما : أن يكون له رأي في موضوع الآية ، ويميل إليه بطبعه وهواه ، فيتأول الآية من القرآن لتكون على وفق رأيه ، ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى ما كان ليلوح إليه ذلك المعنى . وهذا تارة يكون مع العلم بأنه ينزل القرآن على فكره وهواه كبعض المبتدعة الذين يجادلون في آيات الله ويلحفون في الجدل للغلب ، وهم يدركون أن القرآن لا يؤيد رأيهم ولكن يتغالبون به . الغزالي
وقد يكون غير قاصد الغلب ، بأن تكون الآية تحتمل معنيين أو تبدو له كذلك ، فيختار منهما ما يكون أوفق مع فكره ، ولولا فكره السابق ما اختار ذلك المعنى .
[ ص: 35 ] ثم يقول : وهذا الجنس مما تستعمله الباطنية لتغرير الناس ، ودعوتهم إلى مذهبهم الباطل ، فينزلون القرآن على وفق رأيهم ومذهبهم ، وعلى أمور يعلمون قطعا أنها غير واردة به ، فهذه الفنون أحد وجهي المنع من التفسير بالرأي ، ويكون على هذا المراد بالرأي الممنوع الرأي الفاسد الموافق للهوى دون الاجتهاد الصحيح . الغزالي
ثانيهما : المسارعة إلى تفسير القرآن بظواهر الألفاظ من غير معرفة المنقول في موضوعها ، ومن غير مقابلة الآيات بعضها ببعض ، ومن غير معرفة العرف الإسلامي الذي خصص كبعض الألفاظ العربية ، ومن غير علم دقيق بأساليب الاستنباط من حمل المطلق على المقيد ، والعام على الخاص ، وإدراك مواضع الإضمار والحذف ، وغير ذلك من الأساليب القرآنية المعجزة ، فإن ذلك يكون تفسيرا بالرأي من غير أهله ، واجتهادا في الفهم بغير أدواته ، وليس ذلك من التفسير بالرأي ، إنما ذلك من التهجم على ما لا يحسن والعمل فيما لا يتقن ، وذلك قبيح في كل شيء .
* * *