[ ص: 269 ] ادراؤهم في قتل نفس
وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون
* * *
المفسرون على أن هذه الآيات جزء من قصة البقرة إلا ما يتعلق بقسوة قلوبهم ، والحجارة وبعض خواصها ، فهم يقولون إن الأمر بذبح البقرة كان ليضربوه بها أي ليضربوا المقتول بها فيحيا ، فقوله تعالى : اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى الضمير يعود إلى البقرة التي ذبحت : يضرب ببعضها فيحيا ويخبر عمن قتله ونحن لا نرد ذلك ولا نكذبه فأخبار بني إسرائيل فيها العجائب الكثيرة التي ساقها الله تعالى ليؤمنوا ويذعنوا ، ولكن لم يذعنوا قط مع توالي هذه الأمور الخارقة للعادة التي توالت وكثرت .
ولكن في العصر الحديث قرر المرحوم الأستاذ الكبير الشيخ عبد الوهاب النجار ، أنهما قصتان سيقتا لغرضين مختلفين : أما الأولى فهي ، وهي قائمة بذاتها سيقت لبيان آثار العقائد المصرية في نفوس بني إسرائيل ، ولجاجتهم في الامتناع عن ذبح البقرة متأثرين بتقديس المصريين للبقر . . والثانية سيقت لبيان أثر رؤية المقتول في نفس القاتل ، وتأثره بذلك ، وأنه يحمله على الاعتراف بالجريمة عندما يرى المقتول ويمس جسده ، وقد ذكر ذلك الرأي في كتابه قصص القرآن قال تعالى : قصة البقرة وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها أي لم يعرف القاتل ، ودرء كل فريق القتل عن [ ص: 270 ] نفسه باتهام الآخر ، فالادراء أو التدارؤ أن يدفع كل فريق التهمة عن النفس ، ويتهم الآخر .
وكل منهم يعلم الواقع ، ولكن يقرر غيره ; ولذلك قال تعالى : والله مخرج ما كنتم تكتمون أي من الحق ، ومؤدى ذلك أنهم عالمون فيما بينهم من القاتل ولكن يجهلون الأمر ، ولكن الله تعالى كاشف الأمر .
فالمفسرون جملة يقولون : الضمير في بعضها ، في قوله تعالى : اضربوه ببعضها أي ببعض البقرة ، وإن ضربهم للمقتول ببعض البقرة ، يحييه الله تعالى فيخبر عمن قتله ، ويعرف القاتل ، وقصة البقرة سيقت لبيان إحياء الله تعالى الموتى في وسط قوم ينكرون البعث والنشور ; ولذلك قال تعالى بعد ذلك : كذلك يحيي الله الموتى أي كذلك الإحياء الذي شاهدتموه عيانا ، إذ كان ميتا فأحياه الله تعالى ; أي مثل ذلك الإحياء الجزئي الذي شاهدتموه وعاينتموه يحيي سبحانه وتعالى الأجسام بعد موتها ، ويكون النشور ثم تقوم القيامة .
ويقول سبحانه وتعالى : لعلكم تعقلون أي رجاء منكم لأن تعقلوا وتدركوا الأمور على وجهها ، وعلى هذا التفسير يكون المقصود أن الأمر بالذبح لكي يضرب ببعضها الميت فيحيا ، وإن هذا يقتضي أن يقدم خبر الإحياء والضرب ببعضها على الأمر بالذبح .
وقد أجاب عن ذلك بأن التأخير يفيد بأن في الخبر أمرين عجيبين ، وأن كليهما يصلح أن يكون قصة قائمة بذاته ، فالأولى المراوغة في الطاعة ، والثانية إظهار الأمر الخارق لمادة ، في إحياء الميت بضربه ببعض بقرة ، ولقد قال في ذلك : الزمخشري
إن كل ما قص من قصص بني إسرائيل إنما قص تعديدا لما وجد منهم من الخطايا ، وتقريعا لهم عليها ، ولما جدد فيهم من الآيات العظام ، وهاتان قصتان كل واحدة منهما خصت بنوع من التقريع ، وإن كانتا متصلتين متحدتين ، فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء ، وترك المسارعة إلى الامتثال ، وما يتبع ذلك ، والثانية [ ص: 271 ] للتقريع على قتل النفس المحرمة ، وما يتبعه من الآية العظيمة ، وإنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل ; لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة ، ولذهب الغرض من تثنية التقريع ، ولقد روعيت نكتة بعدما استؤنفت الثانية استئناف قصة برأسها أن وصلت بالأولى دلالة على اتحادهما بضمير البقرة لا باسمها الصريح في قوله تعالى : اضربوه ببعضها حتى يتبين أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع - وتثنيته بإخراج الثانية مخرج الاستئناف مع تأخيرها وأنها قصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة .
هذا بيان أنها قصة ، ولكن ذكر أنهما قصتان متحدتان في قصة واحدة ، وأن الضمير العائد إلى البقرة في قوله تعالى : الزمخشري اضربوه ببعضها أي ببعض البقرة .
لكن المرحوم الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار ، عدهما قصتين منفصلتين لا اتصال بينهما بأي نوع من الاتصال البياني ; ولذا لم يجعل الضمير في قوله تعالى : اضربوه ببعضها عائدا على البقرة إنما جعله عائدا إلى جثة المقتول ، بمعنى فاضربوا القاتل الذي قام الاتهام على أنه القاتل ببعض جثة المقتول فإن ذلك يحمله على الاعتراف ، وإذا قام الاعتراف فقد قام الدليل الموجب للقصاص ، وبذلك القصاص يحيي الله تعالى من مات بالقصاص له .
ذلك كقوله تعالى : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا وإحياؤها بالقصاص ، فالقصاص إحياء للنفوس كما قال تعالى : ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون .
وقد ثبت بالإحصاء في تحقيق جرائم القتل أن مجرد رؤية الجاني للمجني عليه وهو مقتول يحركه للاعتراف ، واعتمد المرحوم النجار في ذلك على إحصاءات كثيرة كتبها له رجال الشرطة ، وأن من الوسائل المتبعة لحمل المتهم على الاعتراف أن [ ص: 272 ] يمكنوه من رؤية القتيل ، فإن ذلك يجعله يقشعر ويحس بعظيم ما ارتكب ، وربما حمله ذلك على الاعتراف ، والاعتراف سلطان الأدلة .
وإنه يزكي كلام المرحوم الأستاذ النجار ما يأتي :
أولا : أن القصة الثانية : وهي قصة القتل ابتدأت بقوله تعالى : وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ، ولذلك لم يسع وهو الذواق للبيان القرآني إلا أن يذكر أنهما قصتان ، وإن كان قد حاول أن يصل بينهما بأن الضمير في قوله تعالى : الزمخشري اضربوه ببعضها يعود على البقرة ، مع البعد بينهما بطائفة من القول ، وعدم ظهور ذلك العود على البقرة .
الثاني : أن الضمير في اضربوه ببعضها إذا عاد إلى النفس المقتولة يعود إلى أقرب مذكور ، وعودة الضمير إلى أقرب مذكور هو القاعدة العامة إلا إذا أدى فيها الأمر إلى شذوذ غير معقول ، أو كان ذلك مستحيلا .
الثالث : أن عود الضمير على النفس يؤدي علما نفسيا اجتماعيا هاديا مرشدا ، فيكون في ذلك فائدة جديدة لم تكن في قصة البقرة ، لأن قصة البقرة تدل على عناد بني إسرائيل وتأثرهم بأهواء المصريين في تقديس العجل .
الرابع : أن الآية اختتمت بقوله تعالى : لعلكم تعقلون وهو يدل على أن الموضوع يحتاج إلى تدبر ، وفكر رشيد ، وإدراك لمرمى التكليف .
وما نراه أن الفرق بين رأي المفسرين ، ورأي المرحوم الأستاذ النجار أن اتجاه المفسرين إلى جعل مسألة البقرة مسألة معجزة ، وأمرا خارقا للعادة على أساس أن الضرب ببعضها يحيي نفسا ميتة على أساس أن ذلك دليل حسي على إمكان البعث وقربه ، والمرحوم النجار يرى أن ذلك تكليف اجتماعي ينبه العقول إلى أمر مقرر ثابت في الدراسات النفسية والاجتماعية .
ونحن نميل إلى رأي الأستاذ النجار ، لأنه لو كانت الحياة من الضرب ببعضها لأدى ذلك إلى إشباع ما في نفوسهم من أوهام حول تقديس البقر كما كان يتوهم [ ص: 273 ] المصريون ، بينما الرأي الأخير لا يؤدي إلى شيء من ذلك ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
بعد هذه الآيات البينات ، والمعجزات الباهرة ، والإرشادات الكثيرة لم ترق قلوبهم للحق ، بل زادت قساوة ونفرة منه ; ولذلك قال تعالى : ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ، وثم هنا للتراخي لبعد ما بين هذه الآيات البينات ، والمعجزات الباهرة ، وما انتهت إليه من قسوة القلوب وصلابتها ، حتى كأنها الحجارة أو أشد من هذه الحجارة .
فقد توالت عليهم البينات ، من إنقاذ من فرعون ، وإغراقه وآله ، ومن المن والسلوى ، ومن أخذه الميثاق ، ومن أنهم طلبوا أن يروا الله فصعقوا ثم أفاقوا إلخ ، فقسوا من بعد ذلك فكان الفارق كبيرا . فما جاءهم من البينات ، وما انتهوا إليه من قسوة في القلوب ، فجمدت حتى لا يكون فيها ينبوع لرحمة .
والخطاب للذين حضروا النبي - صلى الله عليه وسلم - باعتبارهم مع من كانوا قبلهم أمة واحدة يرضى حاضرهم بماضيهم وأخلافهم بأعمال أسلافهم ، ولذا صح أن يوجه الخطاب إليهم على أساس أنهم مشتركون معهم ، إن لم يكن بالفعل فبالرضا والتأييد والسير على منهاجهم .
وقد وصف سبحانه وتعالى حال قلوبهم بأنها كالحجارة ، بل إنها أشد قسوة من الحجارة ; لأن الحجارة قد يكون فيها رحمة أو يجعلها الله تعالى سببا للرحمة ، أما هؤلاء فلا رجاء للرحمة فيهم قط ، لأن القلوب إذا جفت فيها ينابيع الرحمة لا تخرج رحمة من بعد ذلك ، وقوله تعالى : أو أشد قسوة خبر بعد خبر ، فالمعنى فهي كالحجارة أو هي أشد قسوة من الحجارة .
وقد رشح الله تعالى لمعنى أن قلوبهم أشد قسوة ، فذكر خواص بعض الحجارة ، أو ما يكون منها أنهارا فقال تعالت كلماته : وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار أي إن من الحجارة للذي يتفجر منه الأنهار وهي الحجارة التي تهطل عليها الأمطار وابلا ، فيتفجر منها ومن صخورها أنهار تجري كأنهار جبال الحبشة [ ص: 274 ] وغيرها من الجبال التي تنحدر السيول من فوقها فتتفجر خلالها أنهارا تجري فيها المياه ، وإن من الأحجار الذي يتشقق منه الماء أي ينبع الماء من عيونها بتشقق منها فتجري منها عيون يكون فيها أنهار ماء عذب فرات .
وإن من هذه الحجارة الذي ترجف فيه الرجفة خشية من الله تعالى أو أنه يرى كذلك كما قال تعالى : لو أنـزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله
وإذا كانت الحجارة منها ما هو مصدر خير عام ، فقلوبهم أشد قسوة منها ، لأنهم لا خير فيهم قط ، ولا تنبع منهم رحمة ، كما تنبع العيون من هذه الأحجار وكما تتفجر فتجري فيها الأنهار .
وختم الله سبحانه وتعالى مهددا منذرا من عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : وما الله بغافل عما تعملون نفى مؤكدا غفلة الله تعالى عن أعمالهم ، وأنها لأعمال خارجة من تلك القلوب القاسية التي نماها كر الأيام واستمرت سارية ، حتى كاد منهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - . وأكد سبحانه وتعالى بالباء في قوله تعالى : (بغافل ) وبالجملة الاسمية ، وإذا كان تبارك وتعالى غير غافل عما يعملون ، فإنه لا محالة مجازيهم به ، آخذهم من نواصيهم فهذه الجملة السامية إنذار شديد .
* * *