إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما
* * *
الحديث في أقوال المنافقين، وشؤونهم وعاقبة أمرهم لا يزال مستمرا، وهذا النص القرآني يبين مآل المنافقين يوم القيامة، فهم في خزي دائم في الدنيا، وعذاب شديد مقيم في الآخرة، وجزاؤهم هو أشد جزاء; لأن كفرهم أشد كفر، لأنه كفر بالله، وكذب على رسول الله، وافتراء على المؤمنين، واستغلال لإخلاص المخلصين، ومن المشركين من يصدق في القول كما رأينا من عندما سأله أبي سفيان هرقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحواله، وليس من المنافقين من يصدق في قول، أو يخلص في عمل أيا كان، ولذا قال تعالى:
إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار جاء في مفردات الراغب الأصفهاني ما نصه: الدرك كالدرج، لكن الدرج يقال اعتبارا للصعود والدرك اعتبارا بالحدور، ولهذا قيل درجات الجنة، ودركات النار، ولتصور الحدور في النار سميت هاوية وقال [ ص: 1923 ] تعالى: إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار والدرك أقصى بر البحر، وسميت مراتب النزول دركات لأنها متداركة متتابعة. .
وإن جهنم طبقات بعضها أسفل من بعض، وإن أسفلها أقساها عذابا; لأنها تتكاثف عليها ما فوقها من طبقات; ولأن أعمق النيران أشدها توهجا، وأكثرها لهيبا.
والمعنى: إن المنافقين الذين مردوا على النفاق واستمرءوه، صار وصفا لهم يمالئون الكافرين، ويخذلون المؤمنين، ينالهم عذاب يوم القيامة على أشده، وأشده هو أعماق جهنم، وهي الهاوية التي تهوي بهم أعمالهم فيها، وإن هذا النص الكريم يفيد أن جهنم طبقات ومنازل، وأن العقاب فيها مرتب على طبقاتهم، وهي كلها عذاب أليم، وقد وصفها القرآن الكريم بأوصاف كلها تنبئ عن الشدة في العذاب، فذكرت باسم "جهنم"، وهو ينبئ عن التردي في النار، ووصفت بأنها "لظى"، وبأنها "الحطمة"، ثم "السعير"، ثم "سقر"، ثم "الجحيم"، ثم "الهاوية"، وقال بعض العلماء إنها مرتبة في مقدار شدتها بهذا الترتيب، والله أعلم بما يكون يوم القيامة.
ولماذا كان قد أجاب عن ذلك العلماء بأن المنافق أوغل في فساد النفس من أي مشرك كافر، وقد جعل الله تعالى لآل المنافقون في الدرك الأسفل في الهاوية من العذاب; فرعون الذين مالئوه وعاونوه في طغيانه أشد العذاب، فقال سبحانه: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب [غافر].
وأولئك في كفرهم ونفاقهم أكثر إيذاء من أي كافر سواهم، ذلك أنهم جمعوا بين الكفر، والفسق والتضليل والتغرير والكذب، وتعرف أسرار المؤمنين وكشفها، وإظهار عورات المسلمين في الحروب، وإفساد لجماعة المؤمنين بإشاعة قول السوء بين المؤمنين، واستغلال ضعف الضعفاء منهم، وتوهين أمر المؤمنين بسبب ذلك الاستقلال، كل هذه جرائم متتابعة تدل على أن نفوسهم قد فسدت، وقلوبهم قد شغرت من كل خير، والكافر الجاحد أقرب إلى الهداية من هؤلاء، فكان عقابهم أشد; لأن جرائمهم أشد. [ ص: 1924 ] ولكن نقول في الجواب عن ذلك إنه المنافق الخالص الذي لم يكن فيه خصلة أو أكثر من خصلة فقط، ولكن هو الذي كفر بالله وبالرسالة المحمدية، وأغلق باب الإيمان في قلبه، ولم يكتف بذلك بل أظهر الإسلام ليفسد بين المسلمين ويتعرف أسرارهم. من هو المنافق الذي يستحق أشد العقاب، ويكون في أعمق النيران يوم القيامة؟
ذلك أن النفاق درجات هذا أعلاها، وهو أشد الكفر، ودونه بعد ذلك مراتب تكون بين المسلمين، ولا تخرج المسلم عن إسلامه، وإن كانت تجعل إيمانه ضعيفا، ومن ذلك ممالأة الحكام، والسكوت عن كلمة الحق مع النطق بالباطل ملقا، وخداعا.
وقيل -رضي الله عنهما-: "ندخل على السلطان، ونتكلم بكلام فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه، فقال -رضي الله عنه-: كنا نعده من النفاق". لابن عمر
ولقد جاء في الحديث النبوي الشريف ما يفيد أن المنافقين فريقان؛ فريق خلص للنفاق، وهذا منكوس القلب والنفس والفكر; وقسم فيه خصلة من النفاق، وهذا يتنازعه الخير والشر، ولنضيء القرطاس بنور الرسالة، فقد قال -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه : الإمام أحمد "القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح، فأما القلب الأجرد: فقلب المؤمن سراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف: فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس: فقلب المنافق عرف، ثم أنكر، وأما القلب المصفح: فقلب فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم، فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه".
وإننا لهذا نقول إن النفاق في داخل الإسلام مراتب، وأعلاها أولئك الذين يتملقون الحكام، وينحدرون إلى درجة وضعهم في مقام النبيين ومنهم من يذهب به فرط نفاقه، فيفضل بعض عملهم على عمل النبيين، وهؤلاء نتردد في الحكم بأنهم [ ص: 1925 ] مسلمون، وقريب منهم الذين يتأولون النصوص من غير حجة في التأويل ويعبثون بظواهرها القاطعة لهوى الحكام.
هذا عقاب المنافقين في إيمانهم في الآخرة، ولهم عقاب في الدنيا والآخرة، ذكره سبحانه بقوله تعالى:
ولن تجد لهم نصيرا نفى الله تعالى عنهم نفيا مؤكدا، أن يكون لهم نصراء، وجعل الخطاب موجها للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو الذي ذاق آثار نفاقهم، وذاق المؤمنون معه مرارة ذلك النفاق، لأن في ذلك تثبيتا للمؤمنين، حتى لا يتزلزل أحد منهم بعمل المنافقين الذي مردوا عليه، ولم يتراجعوا عنه، ولأنهم أرادوا بالنفاق الاستنصار بغير دولة الحق، لتفوز دولة الباطل على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فذكر الله تعالى لنبيه أنه لن يجدهم منصورين عليه أبدا لأنهم لا ناصر لهم.
وإن هؤلاء لن يكون لهم نصير يوم القيامة، لأنه لله وحده، ولن يجدوا نصيرا يخلص في النصرة لهم في الدنيا، لأن النفاق يسلب الثقة عنهم، فلا ينصرهم أحد ممن يستنصرون بهم، بل إنهم يستخدمون شرهم، ولا يعطونهم خيرا، وما وجدنا منافقا في الماضي أو الحاضر يخون قومه، وينال نصرة صحيحة ممن ينافق لأجلهم، فتلك سنة الله تعالى في المنافقين: ولن تجد لهم نصيرا
إن الله سبحانه وتعالى ذكر المنافقين بما يدل على أنهم أركسوا في الشر، وطغى على قلوبهم، وأغلق باب الهداية عليهم، حتى إن رجوع المشرك عن شركه أقرب من رجوع المنافق عن نفاقه، فغلاف القلوب قد ينكشف ولكنه سبحانه مقلب القلوب، فقد تكون من المنافق توبة، ولذلك فتح الله سبحانه وتعالى بابها بقوله سبحانه في هذا الاستثناء:
* * *