ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما
* * *
الكسب معناه طلب ما يرغبه الإنسان، ويطلق الكسب على ما يناله الإنسان من أمور الدنيا، وما تناله النفس من حظوظها أو ما تراه حظا لها، وقد ورد الكسب في القرآن بمعنى طلب الرزق، وورد بمعنى فعل الخير، وورد بمعنى فعل الإثم.
ولاحظنا في تعبيرات القرآن عن كسب الآثام أنها تقرن بما تدل على استمراء النفس للشر، وتأثرها به، فقد قال تعالى: أن تبسل نفس بما كسبت [الأنعام]، أي تمنع من الخير بسبب ما كسبته من ذنوب، وقال تعالى: أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا [الأنعام]، وقال تعالى: [ ص: 1850 ] إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون [الأنعام]، وغير ذلك. ولذلك يصح أن نفسر كسب الإثم بأن يتحراه وتتدرن به نفسه، حتى يصير كسبا رديئا لها، وذلك أن الشر إذا ارتكبه الإنسان خط في النفس خطا، فإذا تكرر ذلك كثرت الخطوط السوداء، حتى يربد القلب، وبذلك يكون قد كسب الإثم، وهو الذنب المبطئ عن الله تعالى.
ومن وصل الشر في نفسه إلى هذا الحد، فإن ذلك الذي اكتسبه لا يعود بالشر ابتداء إلا على نفسه، لأنه أفسد فطرتها، وحولها عن طريق الانتفاع بها إلى أركاسها في الشر. وخسارة الشرير في نفسه أكثر من خسارة الناس فيه، ولأنه يصير من الشذاب الذين تلفظهم الجماعات الإنسانية، ولأن عذاب الله يستقبله، ولذا قال سبحانه مهددا بأنه عالم بما يرتكب، ولو أخفاه، حكيم، يضع لكل امرئ ما يستحق، فلا يتساوى عنده المسيء مع المحسن وهو وحده المتصف بأعلى درجات العلم والحكمة.
ويلاحظ في الفرق بين التعبير في الآية السابقة وهذه الآية أمران: أولهما: أنه عبر في الأولى عن مرتكب الشر بـ"يعمل" وقد بينا ما فهمناه من ذلك، وفي هذه الآية عبر بـ"يكسب"، للإشارة التي تدنس النفس بالشر، واسوداد القلب به، حتى اربد، وأصبح لا نور فيه.
ثانيهما: أنه لم يعبر عن الشر الذي وقع في الأولى بالإثم، بل عبر بالسوء أو الظلم للنفس، وهنا عبر بالإثم المبطئ المبعد عن الله تعالى، لأن الشخص في الحال السابقة قريب من الخير بالتوبة القريبة، أما هنا فحاله حال من تبطؤ توبته. وقد قال سبحانه في المرتبة الكبرى من الشر:
* * *