يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم
* * *
فإطاعة الرسول إطاعة لله، وإطاعة الله إطاعة للرسول أو تقتضيها، فقد قال الله تعالى: طاعة الله وطاعة رسوله متلازمتان، فمن يطع الرسول فقد أطاع الله، وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [الحشر].
وأولو الأمر هم الذين بيدهم الحل والعقد وبيدهم مقاليد الأمة التي يقومون على رعاية مصالحها وشؤونها وإرشادها وتوجيهها. وقد قال بعض الحكام إنهم الفقهاء والذين يستطيعون استنباط الأحكام، ولكن الأكثرين على أن ولاة الأمر هم الحكام وأهل الحل والعقد. [ ص: 1728 ] ونلاحظ هنا أمرين:
أحدهما: أن القرآن الكريم يصرح بأن ولذلك يقول سبحانه: "منكم"، فلا طاعة مطلقا لمن يغلبون على شوون المسلمين ممن ليسوا من أهل الإيمان، فأولئك المنحرفون من بعض أهل الهوى الذين يزعمون أنهم مسلمون، ويزعمون أن الإنجليز أيام حكمهم كانوا من ولاة الأمور الذين يوجب النص طاعتهم - قد ضلوا ضلالا بعيدا، وهم بهذا وبغيره خارجون عن حكم الإسلام. ولاة الأمر الذين تجب طاعتهم يجب أن يكونوا من المؤمنين؛
ثانيهما: أن الله قرن طاعة أولي الأمر بطاعة الله ورسوله، فوجب أن تكون طاعتهما من جنس طاعة الله تعالى ورسوله، بأن تكون في سبيل العدل، ولا تخرج عن حدوده. وإنه باقتران هذه الآية بالآية السابقة يستبين أن لأن الأولى أوجبت العدل، والثانية أمرت بالطاعة، فلو كانوا غير عدول لكانت الطاعة مسايرة لهم على الظلم. وقد نهينا عنه. ولقد قال ولاة الأمر الذين تجب طاعتهم هم العادلون; في هذا المقام ما نصه: الزمخشري
"المراد بأولي الأمر منكم أمراء الحق، لأن أمراء الجور -الله ورسوله بريئان منهم- فلا يعطفون على الله ورسوله في وجوب الطاعة لهم، وإنما يجمع بين الله ورسوله والأمراء الموافقين لهما في إيثار العدل، واختيار الحق، والأمر بهما، والنهي عن أضدادهما، كالخلفاء الراشدين. وكان الخلفاء يقولون: أطيعوني ما عدلت فيكم، فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم.
وعن أبي حازم أن سلمة بن عبد الملك قال: ألستم أمرتم بطاعتنا في قوله تعالى: وأولي الأمر منكم قال: أليس قد نزعت عنكم إذا خالفتم الحق بقوله: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول . وعن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: [ ص: 1729 ] "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني".
ولكي تكون طاعة أولياء الأمر في سبيل الحق والعدل، ومقترنة بطاعة الله ورسوله، وجب الرجوع عند الاختلاف إلى الكتاب والسنة، ولذا قال سبحانه: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر لقد ثبت بإجماع العلماء الذي لا مماراة فيه أن وطاعة رسوله الأمين كما نوهنا، وأنه ليس لولي الأمر طاعة في معصية، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: طاعة أولياء الأمر إنما تكون فيما فيه طاعة الله تعالى، والمعصية منكر لا طاعة فيه، ولقوله عليه الصلاة والسلام: "إنما الطاعة في المعروف"، ولما قررنا من أن طاعة أولي الأمر مقرونة بطاعة الله ورسوله، وأنه [ ص: 1730 ] ليس من المعقول أن يفهم من الآية أن ولي الأمر يطاع حيث يعصى الله ورسوله، وهما مقترنتان، وولي الأمر منا حقا وصدقا لا يخالف الله ورسوله، وإلا كان متغلبا طاغيا. "على المرء المسلم السمع والطاعة، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"،
وإذا كانت طاعة ولي الأمر لا تكون إلا في دائرة الكتاب والسنة، فلا بد أن يكونا هما المرجع في الوفاق والخلاف معا، فإن اتفق أهل الحل والعقد على أمر مشتق من كتاب الله وسنة رسوله، وغير خارج عنهما ولا عن أصولهما المقررة، فهو الحجة الواضحة، كما كان يفعل أبو بكر رضي الله عنهما، فقد كانا يعرضان الأمر الذي لا يعرفان له حكما من كتاب ولا سنة على الصحابة، وأحيانا على كل أهل المدينة، فما يثبت أنه ورد فيه قرآن أو سنة خضع الجميع له، وإلا فإنهم ينظرون مجتهدين فيما يكون من جنس ما يأمر به الكتاب أو السنة، فإن اتفقوا عليه نفذوه. وإذا كان اختلاف، فإنه لا حكم في الاختلاف إلا الكتاب والسنة أيضا، وهذا موضع قوله تعالى: وعمر فإن تنازعتم وليس التنازع هو المحاربة، إنما التنازع هو الاختلاف في طلب الحق في الأمر، وقد جاء في تفسير معنى التنازع في مفردات الراغب: "نزع الشيء جذبه . . والتنازع والمنازعة المجاذبة، ويعبر بهما عن المخالفة والمجادلة". وكأن كل واحد من المختلفين يجذب من الآخر الحجة لدليله، ويجعل الحق في جانبه بجذب الحجة على مخالفه، ومن هذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ! وذلك أن بعض المأمومين جهر [ ص: 1731 ] خلفه، فنازعه القراءة فشغله، فنهى -عليه الصلاة والسلام- عن "ما لي أنازع القرآن" الجهر بالقراءة خلفه في الصلاة.
ويجب بهذا النص عند التنازع الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله، وذلك بالتماس ما يكون من الأحكام متفقا مع المقاصد والغايات التي جاء بها الكتاب والسنة، وإن لعلماء الإسلام في ذلك منهاجين: أحدهما: أن يبحث في الأصلين عن حكم منصوص عليه يشبه في سبب الحكم الحادثة التي لا يجدون فيها نصا، وهذا يسمى القياس الفقهي، وهو ما تسير عليه الكثرة الكبرى من الفقهاء. والمنهاج الثاني: أن ينظر إلى المقاصد العامة للشريعة، وهي مصالح الناس، الثابت الأخذ بها من مجموع النصوص لا من نص بعينه، فإذا كان في الأمر المتنازع فيه مصلحة ملائمة لمقاصد الشارع، من غير مخالفة أي نص، أخذ بها، وهذا المنهاج أخذ به الإمام ، مالك ، وأحمد وزيد.
ولكن يرد هنا سؤالان: من الذين يجري بينهم التنازع; ومن الذين يتولون رد الأمر إلى الكتاب والسنة؟.
والجواب عن السؤال الأول: أن الذين يجري بينهم الخلاف هم أهل الحل والعقد، وذلك يقتضي أن تكون هناك جماعة مصطفاة مختارة تتولى سن النظم ووضع القوانين المشتقة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وهم رجال الشورى الذين ترتضيهم الأمة.
والجواب عن السؤال الثاني: أن الذين يردون الأمر المختلف فيه، يجب أن يكونوا على علم بالكتاب والسنة ومقاصد الشريعة وغاياتها، وهم علماء الإسلام المتفقهون في أحكامه. ولذلك يجب أن يكون في أهل الحل والعقد، أو بجوارهم يعملون معهم، رجال من فقهاء الإسلام المخلصين المؤمنين بحقائقه، الذين لا يغلب عليهم الهوى، ولا يخضعون لهوى الحكام، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه. [ ص: 1732 ] وإن الله تعالى يقرر -تعالت كلماته- أن ذلك وهو الرد إلى الكتاب شأن أهل الإيمان بالله حقا وصدقا، والذين لا تغلبهم الدنيا ومتعها العاجلة، ولذلك يقول: إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر أي إن كنتم تذعنون للحق الذي شرعه الله تعالى لكم وتصدقون وتؤمنون بالآخرة وما فيها من حساب وعقاب، ولم تستول عليكم الدنيا بأهوائها وشهواتها، فإنكم بلا ريب سترجعون إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ذلك أن ولا يكون كأولئك الذين قال الله تعالى فيهم: المؤمن حقا ومصدقا بالله واليوم الآخر لا تستهويه شهوات الدنيا، فيظنها مصالح، بل يذعن لحكم الله دائما، وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون [النور].
وإن اتباع القرآن والسنة في الحكم فيه الخير وحسن المآب، ولذا قال سبحانه:
ذلك خير وأحسن تأويلا إن ذلك الرجوع إلى الكتاب والسنة، في الفرقان والافتراق، خير لكم في الدنيا; لأن فيه مصلحتكم الحقيقية، وفيه بعد عن الهوى، وفيه خضوع لله تعالى. وأحسن تأويلا أي مآلا ونهاية، وفهما لأمور هذه الحياة، فإن شؤون الحياة معقدة، تختلط فيها الشهوات بالمصالح، فلا يمكن فهمها على حقيقتها إذا تشابكت إلا بالرجوع إلى شرع الله، ففيه الفهم الصحيح، وفيه الغاية السامية، وفيه المآل الذي لا شر فيه. فاللهم وفق أمتك للأخذ بشرعتك واجعلنا من الذين لا يحرفون الكلم عن مواضعه، إنك سميع الدعاء.
* * *