ولقد بين - سبحانه وتعالى - جزاء من يكونون في هذه الأحوال الموجبة والسالبة؛ والمشبهة؛ فقال - عز من قائل -: أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما ؛ يقول المفسرون الذين يتجهون إلى الإعراب ابتداء: إن قوله: أولئك يجزون ؛ خبر لقوله (تعالى): وعباد الرحمن ؛ وما وليها من صفات وأحوال؛ وأنا أقول: إن قوله (تعالى): وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا ؛ هو مبتدأ وخبره؛ وما جاء بعد ذلك من معطوفات على الخبر؛ والمؤدى واحد؛ فليس الاختلاف اختلافا في المعنى؛ إنما اختلاف في الإعراب.
والإشارة هنا إلى أصحاب هذه الأحوال والصفات؛ ومن المعروف أن الإشارة إلى الموصوف تومئ إلى أن هذه الأوصاف سبب الحكم؛ وهو هنا الجزاء؛ فهذه الصفات سبب ذلك الجزاء؛ وقد قال القرطبي في عبارة جامعة لهذه الصفات: من التحلي والتخلي؛ وهي إحدى عشرة: التواضع؛ والحلم؛ والتهجد؛ والخوف؛ وترك الإسراف والإقتار؛ والنزاهة عن الشرك؛ والزنا؛ والقتل؛ والتوبة؛ وتجنب الكذب؛ والعفو عن المسيء؛ وقبول المواعظ؛ والابتهال إلى الله (تعالى). وأوصافهم
و " الغرفة " ؛ تطلق على علية البيت؛ واستعيرت للجنة؛ أو لعلية الجنة؛ أي: أعلى مكان فيها; لأن هذه الصفات رفعتهم إلى أعلى درجات الإنسانية؛ فاستحقوا أعلى جزاء؛ وهو الجنة؛ أو أعلاها.
وإنهم يجدون في الجنة التي تسنموا أعلاها؛ وكانوا في الذروة؛ الترحاب والأنس والكمال؛ ويجدون مع هذا كله الأمن والسلام والاطمئنان والقرار؛ ولذا قال (تعالى): ويلقون فيها تحية وسلاما ؛ " لقي " ؛ هي مضعف " لقي " ؛ أي: يلقون في قوة [ ص: 5326 ] راحمة تحية طيبة؛ وهي اللقاء الطيب؛ مع الأنس والاحترام والإقبال؛ كما قال (تعالى): ولقاهم نضرة وسرورا ؛ و " السلام " : الأمن والاطمئنان؛ فلا يزعجون بشيء مما يزعج به أهل الدنيا؛ فإن الملائكة يدخلون عليهم من كل باب؛ سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ؛ وهنا إشارة بيانية في قوله (تعالى): أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ؛ أي أن هذا الجزاء الموفور الذي هو أعلى درجات الجنة؛ بما صبروا؛ أي: بسبب صبرهم وذكر ذلك تصويرا لصبرهم الدائم المستمر؛ وذلك لأن هذه الطاعات تحتاج إلى إرادة قوية صابرة؛ فإنها قمع لشهوات التعالي في الدنيا؛ والغطرسة والسلطان؛ وغيرها من الغرائز الإنسانية؛ فقد قمعوا هذه الغرائز وشذبوها؛ وجعلوها في ناحية الخير لا تعدوها.