ولهذا التأجيل الذي رجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالصبر؛ فقال (تعالى): فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى [ ص: 4810 ] بعد هذا بما كان من هلاك الأمم؛ وأن الله (تعالى) أجله للمشركين؛ مع استهزائهم بك؛ وسخريتهم بالمؤمنين؛ وإيذائهم؛ وقولهم عنك: ساحر؛ وكاهن؛ وشاعر؛ ومجنون؛ وإنه - سبحانه وتعالى - ممهلهم غير مهملهم: الإنذار للمشركين فاصبر على ما يقولون والفاء للسببية؛ أي: بسبب أن الله (تعالى) قد أجلهم ولا يهملهم؛ اصبر على ما يقولون؛ أي: تحمل ما يقولون؛ ولا تلق بالا؛ ولا تحسبن أن الله غافل عما يعمل الظالمون؛ إنما يؤخرهم لأجل غير بعيد؛ وهو محقق الوقوع؛ وما هو محقق الوقوع قريب غير بعيد؛ ولقد بين الله أن تربية النفس على الصبر تكون بالاتجاه إليه؛ واستذكاره في كل الأوقات؛ ولذلك قال بعد ذلك: وسبح بحمد ربك أي: نزهه؛ والباء للدلالة على مصاحبة الحمد للتنزيه؛ أي: نزه ربك عن أن يتركهم؛ حامدا ربك على أنه أعطاك القوة؛ وهو لهم قاهر؛ وتفاءل؛ ولا تتشاءم؛ واعلم أن الله معك؛ غير متخل عنك.
والتسبيح يراد به التنزيه المطلق المصحوب بالحمد؛ وذلك مطلوب في كل وقت؛ أو المراد الصلاة؛ ولعلها كانت قد فرضت؛ وأن تلك الآيات نزلت بعد المعراج؛ وهو الوقت الذي فرضت فيه الصلوات الخمس؛ إن الآية يمكن أن تخرج على الأمرين؛ فيصح أن يكون المطلوب بها أن يلجأ الرسول بعد الصبر؛ مستعينا به على اطمئنان النفس؛ وتنزيهه وحده؛ في الصباح؛ قبل طلوع الشمس؛ وقبل غروبها؛ ومن آناء الليل وساعاته؛ وفي أطراف النهار؛ قبل الزوال وبعده؛ أي: يعمم أوقات الصحو كلها في تنزيه وتقديس؛ وحمد؛ وإن ذكر الله يذهب الشدائد؛ ويعطي النفس قوة؛ ويمكنها من الصبر؛ ويعطيها الاطمئنان والقرار؛ ولذلك قال (تعالى) - في ختام النص السامي -: لعلك ترضى راجيا أنت أيها الرسول أن ترضى؛ وتقبل على تبليغ الرسالة قرير العين؛ غير آبه لهم؛ ولا ملتفت إليهم.
هذا على أن البيان للتسبيح المطلق؛ والحمد؛ والرضا؛ وقد يراد بالسياق الصلاة؛ ويكون في النص السامي إشارات إلى أوقاتها؛ كما في قوله (تعالى): فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون ؛ [ ص: 4811 ] ويكون معنى قوله: قبل طلوع الشمس وقبل غروبها المراد بالأول صلاة الصبح؛ وأنه مستحسن الإسفار بها؛ بأن تكون وقد زال الغلس؛ وما قبل الغروب هو صلاة العصر؛ ومن آناء الليل صلاة العتمة - المغرب والعشاء -؛ وأطراف النهار تأكيد لصلاة الفجر والمغرب؛ كقوله (تعالى): حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ؛ فهو تكرار لتأكيد الطلب؛ وإن تأكيد الطلب في صلاة الفجر; لأنها وقت الهدوء واستجمام النفس واستجماع كل القوى الروحية؛ وصلاة المغرب يضيق وقتها؛ ولذلك ورد في الأثر: المغرب جوهرة فالتقطوها؛ والفجر قد يتلهى عن صلاته بالنوم؛ ولذلك من السنة في أذان الفجر الدعوة إلى: "الصلاة خير من النوم ".
و "آناء "؛ جمع "إنى "؛ ومعناها: وقت؛ أي: نزه الله (تعالى) واحمده في كل أوقات الليل؛ وهنا بعض ملاحظات بيانية؛ أولها قوله (تعالى): ومن آناء الليل فسبح قدم الزمان على الفعل؛ وربط بينهما بالفاء؛ وذلك لمزيد العناية بالوقت؛ فإنه وقت الهدأة والسكون؛ والاتصال بالله وحده؛ الثانية أن الفاء في قوله: "فسبح "؛ لتوكيد الطلب؛ ووصل القول؛ كقوله: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله ؛ وقوله: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ؛ الثالثة أن قوله (تعالى): "لعلك ترضى "؛ الرجاء فيها من النبي - صلى الله عليه وسلم - لا من الله؛ فإن الله وحده هو الفعال لما يريد؛ والعليم الخبير؛ وإن في هذا النص السامي تعليما لأتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يلجؤوا إلى الله عندما تشتد الشديدة؛ ولقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا حزبه أمر لجأ إلى الصلاة؛ وقد قال (تعالى): واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ؛ وإن الذي يذهب بلب اللبيب النظر إلى متع الحياة الدنيا عند غيره؛ [ ص: 4812 ] فقال - عز من قائل -: