[ ص: 4804 ] حال العصاة
ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى
بين الله (تعالى) حال الذي هداه الله واهتدى بالهادي الذي أرسله؛ حيث لا يضل؛ ولا يشقى؛ ومن أعرض عن سماع الهدى فإنه يكون له معيشة ضنك؛ يحس فيها بالضيق الشديد الدائم؛ الذي يجعله في لهج دائم بالحياة؛ أو بنوع منها؛ وهذا قوله (تعالى): ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا "الضنك ": الضيق؛ يقال: "منزل ضنك "؛ أي: "ضيق "؛ و "عيش ضنك "؛ و "معيشة ضنك "؛ أي: ضيقة؛ ويستوي فيه الذكر والأنثى؛ والجمع والمثنى؛ فهو وصف لا يتغير بتغير الموصوف.
وهنا أمران يحتاجان إلى بعض البيان؛ أولهما أنه عبر هنا عن المرشد بـ "ذكري "؛ والجواب أن هذا من إضافة المصدر لفاعله؛ فهو تذكير من الله لعبيده؛ أو باعتبار أن الرسول مبشر ومذكر ومنذر فقط؛ وأن من ذكر بالهدى له ثوابه إن اهتدى؛ وإن لم يهتد فعليه إثمه. [ ص: 4805 ] ثانيهما: في الحياة بأنها معيشة ضنك؛ مع أنه قد يكون في بحبوحة من العيش؛ وفي رغد دنيوي يفاخر به؛ ويقول مفاخرا: كيف توصف معيشة العاصي أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ؟ فكيف يوصف بأنه في معيشة ضنك؟ والجواب عن ذلك أن الضيق لا يكون من قلة المال فقط؛ بل يكون في غير ذلك; لأن من أعرض عن الهدى؛ وعن ذكر الله لا يكون في قناعة راضية؛ بل يكون في طمع مستمر؛ إذا كان عنده مال وفير استقله؛ فلهب في كثيره؛ ويريد وجاهة الدنيا وسلطان الحياة؛ فيكون في ضيق بحياته؛ فإن حرم ظنها الكارثة؛ وهكذا هو يحس بالطلب الدائم؛ ووراء الطلب الإحساس بالضيق؛ وتعجبني في ذلك كلمة قرأتها في تفسير القرطبي ؛ فقد قال: ومعنى ذلك أن الله (تعالى) جعل مع الدين والتوكل عليه؛ فصاحبه ينفق مما رزقه الله - عز وجل - بسماح وسهولة؛ ويعيش عيشا رافغا؛ كما قال (تعالى): التسليم والقناعة؛ فلنحيينه حياة طيبة ؛ والمعرض عن الدين مستول عليه الحرص؛ الذي لا يزال يطمع به إلى الازدياد من الدنيا؛ مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق؛ فعيشه ضنك؛ وحاله مظلمة؛ كما قال بعضهم: لا يعرض أحد عن ذكر الله إلا أظلم وقته؛ وتشوش عليه رزقه؛ وفوق أن الإعراض عن ذكر الله (تعالى)؛ تكون النفس فارغة؛ وحيث فرغت النفوس عن ذكر الله كان الظلم؛ وحيث كان الظلم كان اضطراب الحياة؛ وتوقع الشر والانتقام؛ فتكون العيشة ضنكا؛ وتكون الحياة ضيقة لمن يعرف العواقب؛ هذا عذاب الإعراض عن ذكر الله؛ في الدنيا؛ أما في الآخرة؛ فقد قال (تعالى) فيه: ونحشره يوم القيامة أعمى والمراد أنه لا يملك حجة؛ ولا برهانا؛ يبرر به ما فعل؛ وما وقع منه؛ وفي هذا استعارة تمثيلية؛ فشبهت حال من تقوم عليه الحجة ولا يحير جوابا؛ بحال الأعمى الذي لا يبصر الطريق أين تكون النجاة؛ بجامع الوقوع في الهوة؛ وعدم البصر بطريق للخلاص أبدا؛ وإذا كان من في الدنيا أعمى؛ فهذا الذي حشر بين أهل الضلال في الآخرة أعمى البصيرة؛ وهو أشد ضلالا؛ قال - وقد رأى نفسه قد عمي عليه الدليل؛ وضلت عليه السبيل -: [ ص: 4806 ]