الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل: الخطاب لكل من يقرأ القرآن، والأول أولى لأنه جاء بعد ذلك ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات والاستعجال منهم لا يكون إلا للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومعنى النص السامي: وإن يكن من شأنك يا محمد أن تعجب من أمر فالأمر الجدير بالعجب، أو هو أجدر الأمور بالعجب، فهو قولهم أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد أما إن هذا هو وحده الأمر الحقيق بالعجب، ونكر فعجب قولهم لإفادة عظم هذا العجب لشدة الغرابة فيه.
والعجب منصب على قولهم أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد فموضوع العجب هو هذا القول، لأنه غريب في ذاته ينافي كل معقول، وكل محسوس، لأنهم يرون في خلق الله تعالى أن الله سبحانه خلق السماوات والأرض، وخلق كل نوع نباتا، وأشجارا، ويحيي ويميت، ويفلق الحب والنوى، فيجعل منه زرعا [ ص: 3899 ] متراكبا، ونخيلا وجنات، وفوق ذلك هم يسلمون بأنه الذي ابتدأ خلقهم، والابتداء في حكم العقل والفكر أشد من الإعادة، كما قال تعالى: كما بدأكم تعودون وعجبهم الضال هو في أنهم بعد أن يصيروا ترابا يعودون أحياء.
والاستفهام للإنكار، لإنكار الوقوع مع الغرابة من هذا الوقوع، إن كان، وكرر الاستفهام أإذا كنا ترابا وقولهم: أإنا لفي خلق جديد لأن موضع الغرابة هو الخلق الجديد بعد أن يصيروا ترابا، فدخل الاستفهام على الحالين، والتعبير بـ ( خلق جديد ) يدل على موضع استغرابهم، ونسوا أن الذي يخلقهم خلقا جديدا هو الذي أنشأهم ابتداء على غير مثال سبق، ومن أنشأ على غير مثال سبق قادر على الإعادة على المثال الذي بدأه.
والسبب في ذلك أنهم كفروا بربهم; ولذا قال تعالى: أولئك الذين كفروا بربهم الإشارة إليهم محملين بهذا العجب من إعادة الخلق جديدا ممن بدأه، وفي هذه الجملة السامية بيان سبب الإنكار وهو أنهم كفروا بربهم، كفروا بقدرته القاهرة، والتعبير بربهم في هذا المقام له سره العميق; لأنهم يكفرون بقدرته وهو الذي أنشأهم، ويربيهم، ويقوم على أمورهم، فكيف يعجز عن حال من أحوالهم.
وأولئك الأغلال في أعناقهم الإشارة إليهم على النحو الذي بيناه، والأغلال جمع غل وهو القيد الذي يرفع اليد إلى الأعناق، وذكرت الأعناق في الآية لتأكيد وجود الغل، وفي الكلام ما يفيد أن الأغلال معنوية; ذلك أنهم لسيطرة المادة عليهم كانوا كأنهم في أغلالها لا ينفصلون عن هذه الأغلال، فالكفر بالغيب أداهم إلى هذه الحال المثيرة للعجب من أمرهم، ففي الكلام استعارة، شبهت حالهم في استغراق المادة لنفوسهم بحال من وضع الغل في عنقه، فلا يتحرك إلا تحت سيطرة هذه الأغلال، و: أعناقهم ترشيح للاستعارة. [ ص: 3900 ]
وهناك تخريج آخر، وهو أنهم يكونون في أغلال من حديد يساقون بها إلى جهنم، وقد أكد سبحانه وتعالى بعد ذلك أنهم أصحاب النار هم فيها خالدون.
فقال سبحانه وتعالى: وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون الإشارة لما ذكرنا إلى موضع العجب من أمورهم، وقد أكد خلودهم في النار بالتعبير عنهم بأنهم أصحاب النار، أي: الذين يلازمونها بالصحبة الدائمة المستمرة، وب (هم) التي تدل على التوكيد، وتدل أيضا على اختصاصهم بالدخول في النار والخلود فيها،، أنهم يبالغون في ولا تجديهم النذر، بل يستهزئون بالإنذار بعد الإنذار. إنكار البعث،
ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب
السين والتاء للطلب، فهم يطلبون التعجيل بالسيئة قبل الحسنة، أي: أنهم عندما يسمعون البشير والنذير، يستعجلون العقوبات التي تكون في الإنذار بدل أن يعملوا الحسنات ويستعجلونها طالبين لها، وذلك من فساد الفكر وضلال النفي، وسيطرة العادة، والمبالغة في إنكار الحق، فإذا جاء إنذار بعذاب شديد إن استمروا في غيهم، وجنات النعيم والعزة في الدنيا إن استقاموا على الطريقة واهتدوا، لا يفكرون في فعل الخير يستعجلون به بل ينساقون في الإنكار ويستعجلون السيئة متهكمين، مهملين مستهترين، والسيئة هي ما يسوء في ذات نفسه، والحسنة ما يحسن في ذات نفسه، فهم يطلبون السيئ تحديا وتهكما واستهتارا، وكأنهم لا يعبئون.
ويفعلون ذلك، ويقولونه، مع أن العبر بين أيديهم شاهدة بصدق ما يخبرهم به ربهم! ولذا قال تعالى: وقد خلت من قبلهم المثلات و: (خلت) معناها مضت من قبلهم المثلات والمثلات جمع (مثلة)، ك (سمرة)، أي: خلت العقوبات التي نزلت بالذين من قبلهم كما عتوا وتجبروا، وعاندوا رسلهم، كقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم شعيب، وسميت مثلة; لأنها كانت عقوبة [ ص: 3901 ] متماثلة لما ارتكبوا، ويصح أن تكون مشتقة من مثال بمعنى قصاص للتماثل بين الجريمة والعقوبة، وذلك أعدل وأردع.
وإنه سبحانه وتعالى مع عدله في أن تكون العقوبة على قدر الجريمة، وملاحظة التماثل بينهما من غير أي بخس لعمل ولا مجاوزة للعقاب يعفو عن كثير، ولذا قال تعالى بعد أن قرر أن المثلات قد مضت، أنه عندما يشتد سيل الشر ويتفاقم أمره ينزل العقاب، دفعا للشر ووقفا له حتى لا يعم الفساد، ويضل العباد، قال تعالى: وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم أي: إن ربك لذو مغفرة، تلازمه المغفرة كما يلازم الصاحب صاحبه حال كونهم ظالمين لأنفسهم بالشر الذي ارتكبوه، ولكنه يقبل التوبة فالتوبة الغفران، كما قال تعالى: غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب فالظلم بمعنى ظلم النفس بارتكاب المعاصي وليست بمعنى الشرك، فإنه ظلم كما قال تعالى عن لقمان: إن الشرك لظلم عظيم ولكنه هنا بما دون ذلك، لأن الله تعالى لا يغفر الشرك، كما قال تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وكما أن الله سبحانه وتعالى صاحب المغفرة التي هي ستر الذنب، ولا يحاسب عليه إذا كانت دون الشرك، فهو أيضا شديد العقاب على المصرين على المعاصي الذين أحاطت بهم خطيئاتهم واستغرقت نفوسهم، ولذا قال تعالى: وإن ربك لشديد العقاب أي: إن عقابه شديد لمن أصر على المعصية وتدرنت بها نفسه وأظلمت.
وقد أكد سبحانه وتعالى عقابه بالجملة الاسمية، وب (إن) التي للتوكيد، وباللام.
ويلاحظ أنه سبحانه وتعالى عبر بالرب في صحبة المغفرة، وشدة العقاب، وفي ذلك إشارة إلى أنه من مقتضيات الربوبية، فهو يهذب عبيده بالإنذار بشدة العقاب، وفتح باب التوبة من غير أن يقنط العصاة من رحمته، كما قال تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا [ ص: 3902 ]
وقد ورد في معنى هذا النص السامي آيات كثيرة منها قوله تعالى: نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم ومنها قوله تعالى: إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم وقوله تعالى: فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين وهكذا النصوص القرآنية الدالة على أنه ولقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا المعنى: لا يصح أن يطمع العاصي في عفو مطلق، ولا أن ييأس من رحمة الله تعالى، " لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحدا العيش، ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل واحد " والله أعلم.
وإنهم مع قيام الدلائل على الوحدانية، وقيام المعجزة الكبرى، وهي القرآن يطلبون آيات أخرى وينكرون إعجاز القرآن مع قيام التحدي الشامخ وعجزهم عن أن يأتوا بمثله; ولذا قال الله تعالى لهم: