وقد بين سبحانه وتعالى سنته في أعمال الرسول ومآل الأمر حال يأسهم، فقال تعالت حكمته:
حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين
هنا كلام مقدر بما جاء بعد، و: (حتى) غايته، والمعنى أن الرسل جاءوا ودعوا وكذبوا وحوربوا، وقل المؤمنون بجوار الكافرين وكانوا يسخرون من الذين آمنوا حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا [ ص: 3877 ]
استيئس الرسل اعتراهم اليأس الشديد، واستولى على نفوسهم كأنهم طلبوه، وما طلبوه، وصارت حالهم يأسا، وصور صورة من يأسهم، فقال: وظنوا أنهم قد كذبوا جال في روعهم أنهم كذبوا، ولم يعد مجال للإيمان أو النصر، وهنا قراءتان في (كذبوا) القراءة الأولى بالتخفيف والبناء للمجهول، وهي قراءة الأكثرين، والثانية بتشديد (الذال) للبناء للمجهول أيضا، وهي قراءة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وطائفة من القراء بعدها . عائشة
والمعنى على قراءة التخفيف كما جاء في مفردات الراغب الأصفهاني علموا أنهم تلقوا من جهة الذين أرسلوا إليهم بالكذب، أي: ظنوا أن الذين تلقوا عنهم أخبار الإنذار يظنون الكذب فيهم، وإليك نص عبارة الراغب رضي الله عنه: قوله تعالى: حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا أي: علموا أنهم تلقوا من جهة الذين أرسلوا إليهم بالكذب، فكذبوا نحو فسقوا، وزنوا - إذا نسبوا إلى شيء من ذلك، والمعنى على هذا ظنوا أنه وقع في نفوس من يخاطبون كذب ما أنذروا.
أي: أنه قد طال الأمد الذي أجلوه، حتى توهم الرسل أن الذين يخاطبونهم من المشركين قد وقع في نفوسهم كذب الرسل، واتخذوا من المطاولة في الزمن، أنهم كاذبون في إنذارهم، واتخذوا من طول الزمن دليلا على كذبهم.
وعلى قراءة التشديد يكون المعنى أن الرسل قد استيأسوا حتى ظنوا، أي: علموا أنهم كذبوا فيئسوا من إيمان غير من آمنوا، كما قال الله تعالى: لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن
والظن هنا بمعنى العلم، أو بمعنى ما يعرض للبشر عند اليأس من خواطر تجعلهم يظنون في أمر المبعوث إليهم، ولننقل لك كلام في هذا، فهو يدل على نفاذ بصيرة في معاني العبارتين ومراميها من غير تهجم، ولا تقحم على [ ص: 3878 ] المعاني قال: الزمخشري وظنوا أنهم قد كذبوا أي: كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم عنهم بأنهم ينصرون، والمعنى أن مدة التكذيب والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله، قد تطاولت وتمادت حتى استشعروا القنوط، وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا، فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب. وعن رضي الله عنهما، وظنوا حين ضعفوا أو غلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر. وقال: كانوا بشرا، وتلا قوله تعالى: ابن عباس وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله فإن صح هذا عن فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشر، وأما الظن وهو ترجيح أحد الجائزين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين، فما بال رسل الله الذين هم أعرف الناس بربهم، وإنه متعال عن خلف الميعاد، منزه عن كل قبح، وقيل: وظن المرسل إليهم بأنهم كذبوا من جهة الرسل، أي: كذبتهم الرسل في أنهم ينصرون عليهم. ابن عباس
وإنه بعد هذا التحليل نقول: إن أم المؤمنين ردت قول عائشة رضي الله عنهما وقالت: إن الرسل لا يظنون بالله خلف الوعد. ابن عباس
وخلاصة القول أن نقول: إن معنى وظنوا أنهم قد كذبوا على التخفيف والبناء للمجهول أن يظنوا أنه ألقى في نفوس المرسلين إليهم أنهم كذبوا في إيقاع العذاب بهم، وأن ذلك النطق نوع من هواجس الفكر البشري، وهي تتلاقى مع قوله تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب
وقوله تعالى: جاءهم نصرنا أي: بغتة من حيث لا يحتسبون، فنجي من نشاء وهم الذين استقاموا على الطريقة واتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات، ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين الذين اجتمعوا على الإجرام واتفقوا عليه، حتى كانوا قوما من شأنهم الإجرام واجتمعوا عليه.
* * *