وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف بعد أن بين سبحانه العواقب الوبيلة التي تترتب على الإمساك ضرارا ، وما فيه من ظلم للرجل والمرأة معا ، أخذ يبين حكمه سبحانه في ظلم آخر يقع بالنساء وعاقبته وبيلة للمجتمع ، فقال سبحانه : وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن
[ ص: 800 ] بلوغ الأجل هنا هو بلوغ أقصى العدة ، فالبلوغ هنا غير البلوغ في الآية السابقة ، إذ الأول كان للمقارنة والمشارفة ، وهنا للانتهاء والسياق هو الذي عين معنى البلوغ في الأول كما بينا ، وهو الذي عين معنى البلوغ الثاني ، إذ إن العقد المعبر عنه بقوله تعالى : أن ينكحن أزواجهن يدل على أن المراد هو انتهاء العدة ; إذ لا يتصور النكاح وهو العقد الذي يكون من طرفين إلا بعد انتهاء العدة ; ولذا قال رضي الله عنه في هذه الآية والتي سبقتها : ( دل سياق الكلامين على اختلاف البلوغين ) . الشافعي
والعضل معناه هنا المنع الظالم ، وأصله بمعنى الحبس والتضييق مع الألم ، ومنه : عضلت الدجاجة إذا تعلقت بها بيضتها فلم تخرج منها ، وعضل المرأة يمنعها من الزواج من غير مبرر فيه حبس لها وتضييق عليها ، وإرهاق لنفسها ولحسها .
وإن النساء اللائي يطلقن يتعرضن لظلم المطلقين ، فيحاول المطلقون أن يرهقوهن من أمرهن عسرا ، بأن يمنع كل مطلق من طلقها من أن تتزوج من غيره ، خصوصا إذا كان صاحب سطوة باغية ، أو كان ذا جبروت طاغية ; وتلك نزعة جاهلية ، لا يقرها عرف ولا شرع ولا عقل ، ويتعرض أولئك المطلقات لظلم ذويهن ، فقد يردن العودة إلى أزواجهن ، ويتراضين معهم على ذلك ، ولكن يقف الولي محاجزا ، حاسبا أن ذلك مهانة له ولها ، كما فعل بعض الناس في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - ; وقد ترتضي المطلقة رجلا زوجا لها ، عفا في عرضه ، تقيا في دينه فيملأ نفسها ; ولكن لا يرتضيه أولياؤها لأمر لا ينقص من قدره ، كفقر أو نحوه ، فيمنعونها من ذلك الزواج ! [ ص: 801 ] في كل هذه الصور يكون عضل المرأة ، وحبسها والتضييق عليها في ذات نفسها ; فنهى الله سبحانه وتعالى عن ذلك في قوله تعالى : وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن
وقد قال بعض العلماء : إن الخطاب للمطلقين ليمتنعوا عن تلك العنجهية الجاهلية ; وقال بعضهم الخطاب للأولياء لكيلا يحولوا بين النساء وبين الزواج ممن يردن من غير سبب ومبرر ، سواء أكان الزوج الذي ارتضته هو المطلق السابق أم كان غيره .
ونحن نرى أن الخطاب عام لكل المؤمنين ممن يقع في دائرتهم ذلك ، فهو يعم المطلقين ، ويعم الأولياء ، ويعم غيرهم ممن يتصلون بهم ، ويعم أولياء الأمر الذين بيدهم الهيمنة على الأمور ، والتعميم بهذا الشكل يدل على التكافل بين آحاد الأمة ، ووجوب التعاون بينهم في منع كل ظلم ، وخصوصا ما يقع على الضعفاء ، وما يمس الحرية الشخصية في أدق ما تتجه إليه ، ولا شيء يهم المرأة أكثر من اختيار زوجها ، ولا عقد أمس بالوجدان من عقد الزواج ، ولا اتفاق أكبر خطرا في الحياة من ذلك الاتفاق ; فالظلم فيه خطير بمقدار ما له من خطر وشأن .
غير أن ; ولذا قيد التراضي بقوله : المرأة ليست لها الحرية المطلقة في اختيار من تشاء من الأزواج ، بل إن رضاها مقيد بالمعقول والمشروع إذا تراضوا بينهم بالمعروف أي بالأمر الذي تسير عليه العقول ، ويجري به العرف ، ويقره العقل ، ولم يكن ثمة سبب للاعتراض ، فليس من المعقول أن يطلق اختيارها ويحترم إذا اختارت لمجرد الهوى العارض ، سواء أكان كفئا لها أم لم يكن كفئا ; ولذلك سوغ للولي أن يعترض أبو حنيفة ، فهو قد أطلق حريتها ، ولكن إن أساءت الاختيار كان للولي الاعتراض ، وغير إن تزوجت بغير كفء أشركوا الولي معها في الاختيار حتى لا تضل ، ولكن نهاهم القرآن عن أن يمتنعوا من غير سبب معقول ، وإلا أبي حنيفة ، ولها أن ترفع الأمر إلى القاضي صاحب الشأن ليرفع ظلم الأولياء . كان ذلك عضلا
[ ص: 802 ] وهنا نكتة بلاغية نشير إليها ; ذلك أن الله سبحانه وتعالى عبر عن الذين يختارهم النساء ويمنعن عنهم ظلما بالأزواج مع أن الزواج لم يتم ، للإشارة إلى الحقيقة المقررة الثابتة ، وهو أن من يقع اختيارها عليه ، ويتراضيان عليه بالمعروف ، ولم يكن الزواج بينهما فيه ما يشينها أو يشين أسرتها هو الذي ينبغي أن يكون ازدواجها به ، وهو في حكم الفطرة زوجها ، وعلى الأولياء ألا يعاندوا حكم الفطرة ، بل عليهم أن ينفذوه ويقروه ، ولا يصح لأحد أن يعارضه .
ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلك القول الحكيم ، والأمر الكريم يذكر الله به تذكيرا يرق معه قلب المؤمن وتخشع نفسه ، ويوجل قلبه إذا كان يؤمن بالله واليوم الآخر ; ذلك لأن الإيمان بالله ، والإحساس بعظمته وكبريائه ، يمنع الظالم من أن يظلم ، ولا يظلم الظالم إلا وهو في غفلة عن الله ، ولو أحس بأن الله محاسبه ، وأنه يأخذ الظالم بظلمه ، وأن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب ، ما استمر في ظلمه ، ولا استرسل في غيه ، ولكنه يكون حال ظلمه في غفوة عن الإيمان ، ونسيان للواحد الديان وهو القاهر فوق كل شيء .
من شأنه أن يحس معه المؤمن بالحساب والعقاب الذي يرتقبه ، ومن شأنه أن يجعل المؤمن يستهين بالدنيا وما فيها ، ويعلم أنها ظل زائل ، وعرض حائل ، وأن الآخرة هي الباقية وإذا كان كذلك قلل من الرغبات ، وإذا قلت الرغبات ضعفت الدوافع إلى الظلم ، وخمدت نوازع الشر . والإيمان باليوم الآخر
ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون ذلكم أيها المؤمنون أجمعون من غير تخصيص طائفة بالخطاب ، وهو ما شرعه الله سبحانه من أحكام خاصة بسلطان الأزواج والأولياء ، أزكى وأطهر ، والزكاة النماء ، أما أنه أزكى وأنمى ; فلأن قيام الأسرة على العدل والمودة والتراحم يؤيد في عدد الأمة فيكثر النسل ; ويزيد من قوتها ; لأن الجماعات القوية هي التي تقوم على أسرة قوية ، ولا شيء يقوي الأسرة أكثر من المودة والعدل والرحمة ; وأما أنه أطهر فلأن المرأة إذا عوملت معاملة كريمة بالحق والعدل وأطلقت حريتها في دائرة المعروف المعقول [ ص: 803 ] ولم تظلم في رغباتها العادلة ، أدى ذلك إلى الطهر والعفاف ; فإن احترام النفس صون وعفاف ، وامتهانها نقيض ذلك ; لأن النفس إذا أكرهت جمحت ، وإذا جمحت لم ترتبط برباط من الحكمة والصون والعفاف ، بل إنها إذا جمحت عميت ، فلا تدرك خيرا ولا شرا . ولقد روي أن رضي الله عنه قال : ( إن للقلوب شهوات ، وإقبالا وإدبارا ، فأتوها من قبل شهواتها وإقبالها ، فإن القلب إذا أكره عمي ) ولا عفة ولا طهر عند عماية القلوب . علي بن أبي طالب
ولقد قال سبحانه : ذلكم بضمير الجمع ، وغير النسق ; للإشارة إلى أن حماية المرأة من الهوان ومنع التضييق عليها في اختيار زوجها ، إن كان الاختيار في دائرة المعقول - حق على الجميع ، وفائدته للجميع .
ولقد ذيل سبحانه الآية الكريمة بقوله : والله يعلم وأنتم لا تعلمون للإشارة إلى أن شرع الله تعالى فيه النفع الدائم ، والمصلحة الحقيقية ، والنتائج المرضية; لأنه شرع من يعلم كل شيء ولا يجهل شيئا ، وليس للناس أن يتمردوا عليه ، أو يخالفوه ، أو يهونوا مخالفته في أنفسهم بدعوى أنهم يرونه في الظاهر مخالفا للظاهر من مصلحتهم ; فإن ما يدركونه مصلحة ليس بمصلحة في ذاته إذا جاء نص الشرع القاطع على خلافه ; لأن علم الإنسان قاصر ، وعلم الله وحده هو الكامل ; فلنتبع شرع الله ، ولا نحكم الهوى في نصوص الكتاب ، ولنحث التراب في وجوه الذين يحاولون مخالفة النصوص الصريحة القاطعة بدعوى أن المصلحة في خلافها ; لأنه لا توجد مصلحة قاطعة تخالف نصا قاطعا; إنما هي أوهام ، وعقول خاضعة لأزمان محكومة بالشر المتكاثف ، حتى حجب النور ; ولنقل لهم إن شرع الله هو المصلحة : والله يعلم وأنتم لا تعلمون
* * *