الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
اختيار هذا الخط
الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
وسئل رحمه الله عن nindex.php?page=treesubj&link=244_19014_19012الغيبة هل تجوز على أناس معينين أو يعين شخص بعينه ؟ وما حكم ذلك ؟ أفتونا بجواب بسيط ; ليعلم ذلك الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ويستمد كل واحد بحسب قوته بالعلم والحكم .
فأجاب : الحمد لله رب العالمين . أصل الكلام في هذا أن يعلم أن الغيبة هي كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما { nindex.php?page=hadith&LINKID=600320سئل عن الغيبة فقال : هي ذكرك أخاك بما يكره قيل : يا رسول الله أرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته } .
فالكذب على الشخص حرام كله سواء كان الرجل مسلما أو كافرا برا أو فاجرا لكن الافتراء على المؤمن أشد ; بل الكذب كله حرام .
ولكن nindex.php?page=treesubj&link=18998تباح عند الحاجة الشرعية " المعاريض " وقد تسمى كذبا ; لأن الكلام يعني به المتكلم معنى وذلك المعنى يريد أن يفهمه المخاطب فإذا لم يكن على ما يعنيه فهو الكذب المحض وإن كان على ما يعنيه ولكن ليس على ما يفهمه المخاطب فهذه المعاريض وهي كذب باعتبار الأفهام وإن لم تكن كذبا باعتبار الغاية السائغة . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=33081لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلهن في ذات الله : قوله لسارة : أختي وقوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=2567&ayano=21بل فعله كبيرهم هذا } وقوله { nindex.php?page=tafseer&surano=3914&ayano=37إني سقيم } } وهذه الثلاثة معاريض .
وبها احتج العلماء على nindex.php?page=treesubj&link=21039_18998جواز التعريض للمظلوم وهو أن يعني بكلامه ما يحتمله اللفظ وإن لم يفهمه المخاطب ; ولهذا قال من قال من [ ص: 224 ] العلماء : إن ما رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو من هذا كما في حديث أم كلثوم بنت عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=600322ليس الكاذب بالذي يصلح بين الناس فيقول خيرا أو ينوي خيرا } . ولم يرخص فيما يقول الناس : إنه كذب ; إلا في ثلاث : في الإصلاح بين الناس وفي الحرب ; وفي الرجل يحدث امرأته . قال : فهذا كله من المعاريض خاصة .
ولهذا نفى عنه النبي صلى الله عليه وسلم اسم الكذب باعتبار القصد والغاية كما ثبت عنه أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=600323الحرب خدعة } وأنه كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها . ومن هذا الباب قول الصديق في سفر الهجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل يهديني السبيل . { وقول النبي صلى الله عليه وسلم للكافر السائل له في غزوة بدر : نحن من ماء } وقوله للرجل الذي حلف على المسلم الذي أراد الكفار أسره : إنه أخي . وعني أخوة الدين وفهموا منه أخوة النسب فقال النبي صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=90002إن كنت لأبرهم وأصدقهم المسلم أخو المسلم } .
والمقصود هنا : أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الاغتياب وبين البهتان وأخبر أن المخبر بما يكره أخوه المؤمن عنه إذا كان صادقا فهو المغتاب وفي قوله صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=600325ذكرك أخاك بما [ ص: 225 ] يكره } موافقة لقوله تعالى { nindex.php?page=tafseer&surano=4673&ayano=49ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه } فجعل جهة التحريم كونه أخا أخوة الإيمان ; ولذلك تغلظت الغيبة بحسب حال المؤمن فكلما كان أعظم إيمانا كان اغتيابه أشد .
إذا تبين هذا فنقول : nindex.php?page=treesubj&link=19012ذكر الناس بما يكرهون هو في الأصل على وجهين ( أحدهما ذكر النوع ( والثاني ذكر الشخص المعين الحي أو الميت .
أما الأول فكل صنف ذمه الله ورسوله يجب ذمه ; وليس ذلك من الغيبة كما أن كل صنف مدحه الله ورسوله يجب مدحه وما لعنه الله ورسوله لعن كما أن من صلى الله عليه وملائكته يصلى عليه . فالله تعالى ذم الكافر والفاجر والفاسق والظالم والغاوي والضال [ ص: 226 ] والحاسد والبخيل والساحر وآكل الربا وموكله والسارق والزاني والمختال والفخور والمتكبر الجبار وأمثال هؤلاء ; كما حمد المؤمن التقي والصادق والبار والعادل والمهتدي والراشد والكريم ; والمتصدق والرحيم وأمثال هؤلاء . { nindex.php?page=hadith&LINKID=11838ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه } والمحلل والمحلل له ولعن من عمل عمل قوم لوط . ولعن من أحدث حدثا أو آوى محدثا ولعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها وساقيها وشاربها وآكل ثمنها ولعن اليهود والنصارى حيث حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها ولعن الله الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات من بعد ما بينه للناس وذكر لعنة الظالمين .
والله هو وملائكته يصلون على النبي ويصلون على الذين آمنوا . والصابر المسترجع عليه صلاة من ربه ورحمة . والله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير ويستغفر له كل شيء حتى الحيتان والطير وأمر الله نبيه أن يستغفر لذنبه وللمؤمنين والمؤمنات .
فإذا كان المقصود الأمر بالخير والترغيب فيه والنهي عن الشر والتحذير منه : فلا بد من ذكر ذلك ولهذا { nindex.php?page=hadith&LINKID=35797كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه أن أحدا فعل ما ينهى عنه يقول : ما بال رجال يشترطون [ ص: 227 ] شروطا ليست في كتاب الله ؟ من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط } { nindex.php?page=hadith&LINKID=68564ما بال رجال يتنزهون عن أشياء أترخص فيها ؟ والله إني لأتقاكم لله وأعلمكم بحدوده } { nindex.php?page=hadith&LINKID=600326ما بال رجال يقول أحدهم : أما أنا فأصوم ولا أفطر ؟ ويقول الآخر : أما أنا فأقوم ولا أنام ؟ ويقول الآخر : لا أتزوج النساء ويقول الآخر : لا آكل اللحم ؟ لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء وآكل اللحم ; فمن رغب عن سنتي فليس مني } .
[ ص: 228 ] الناس من آدم وآدم من تراب } وقال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=30997إنه لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض : إلا بالتقوى } .
nindex.php?page=treesubj&link=19015وأما الشخص المعين فيذكر ما فيه من الشر في مواضع .
منها nindex.php?page=treesubj&link=19016المظلوم له أن يذكر ظالمه بما فيه . إما على وجه دفع ظلمه واستيفاء حقه كما { nindex.php?page=hadith&LINKID=600329قالت هند : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وأنه ليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي . فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف } كما قال { nindex.php?page=hadith&LINKID=600330صلى الله عليه وسلم لي الواجد يحل عرضه وعقوبته } وقال وكيع : عرضه شكايته وعقوبته حبسه وقال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=645&ayano=4لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم } وقد روي : أنها نزلت في رجل نزل بقوم فلم يقروه . فإذا كان هذا فيمن ظلم بترك قراه الذي تنازع الناس في وجوبه وإن كان الصحيح أنه واجب فكيف بمن ظلم بمنع حقه الذي اتفق المسلمون على استحقاقه إياه أو يذكر ظالمه على وجه القصاص من غير عدوان ولا دخول في كذب ولا ظلم الغير ; وترك ذلك أفضل .
ومنها أن يكون على وجه النصيحة للمسلمين في دينهم ودنياهم [ كما ] في الحديث الصحيح عن { nindex.php?page=hadith&LINKID=600331فاطمة بنت قيس لما استشارت النبي صلى الله عليه وسلم من تنكح ؟ وقالت : إنه خطبني معاوية وأبو جهم فقال : أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء } وروي : { nindex.php?page=hadith&LINKID=600332لا يضع عصاه عن عاتقه } فبين لها أن هذا فقير قد يعجز عن حقك وهذا يؤذيك بالضرب . وكان هذا نصحا لها - وإن تضمن ذكر عيب الخاطب .
وفي معنى هذا nindex.php?page=treesubj&link=19497_19702_18300نصح الرجل فيمن يعامله ومن يوكله ويوصي إليه ومن يستشهده ; بل ومن يتحاكم إليه . وأمثال ذلك ; وإذا كان هذا في مصلحة خاصة فكيف بالنصح فيما يتعلق به حقوق عموم المسلمين : من الأمراء والحكام والشهود والعمال : أهل الديوان وغيرهم ؟ فلا ريب أن النصح في ذلك أعظم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 231 ] { nindex.php?page=hadith&LINKID=14202الدين النصيحة الدين النصيحة قالوا لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم } .
وقد قالوا nindex.php?page=showalam&ids=2لعمر بن الخطاب في أهل الشورى : أمر فلانا وفلانا فجعل يذكر في حق كل واحد من الستة - وهم أفضل الأمة - أمرا جعله مانعا له من تعيينه .
وإذا كان النصح واجبا في المصالح الدينية الخاصة والعامة : مثل نقلة الحديث الذين يغلطون أو يكذبون كما قال يحيى بن سعيد : سألت مالكا والثوري والليث بن سعد - أظنه - والأوزاعي عن الرجل يتهم في الحديث أو لا يحفظ ؟ فقالوا : بين أمره . وقال بعضهم nindex.php?page=showalam&ids=12251لأحمد بن حنبل : أنه يثقل علي أن أقول فلان كذا وفلان كذا . فقال : إذا سكت أنت وسكت أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم .
ومثل nindex.php?page=treesubj&link=19018_19019_20345_20442أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة ; فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين حتى قيل nindex.php?page=showalam&ids=12251لأحمد بن حنبل : الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع ؟ فقال : إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين هذا أفضل . فبين أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس [ ص: 232 ] الجهاد في سبيل الله ; إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب ; فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعا وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء .
فإذا كان أقوام منافقون يبتدعون بدعا تخالف الكتاب ويلبسونها على الناس ولم تبين للناس : فسد أمر الكتاب وبدل الدين ; كما فسد دين أهل الكتاب قبلنا بما وقع فيه من التبديل الذي لم ينكر على أهله .
وإذا كان أقوام ليسوا منافقين لكنهم سماعون للمنافقين : قد التبس عليهم أمرهم حتى ظنوا قولهم حقا ; وهو مخالف للكتاب وصاروا دعاة إلى بدع المنافقين كما قال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=1291&ayano=9لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم } فلا بد أيضا من بيان حال هؤلاء ; بل الفتنة بحال هؤلاء أعظم فإن فيهم إيمانا يوجب موالاتهم وقد دخلوا في بدع من بدع المنافقين التي تفسد الدين فلا بد من التحذير من تلك البدع وإن اقتضى ذلك ذكرهم وتعيينهم ; بل ولو لم يكن قد تلقوا تلك البدعة عن منافق ; لكن قالوها ظانين أنها هدى وأنها خير وأنها دين ; ولم تكن كذلك لوجب بيان حالها .
ولهذا وجب بيان حال من يغلط في الحديث والرواية ومن [ ص: 234 ] يغلط في الرأي والفتيا ومن يغلط في الزهد والعبادة ; وإن كان المخطئ المجتهد مغفورا له خطؤه وهو مأجور على اجتهاده . فبيان القول والعمل الذي دل عليه الكتاب والسنة واجب ; وإن كان في ذلك مخالفة لقوله وعمله . ومن علم منه الاجتهاد السائغ فلا يجوز أن يذكر على وجه الذم والتأثيم له ; فإن الله غفر له خطأه ; بل يجب لما فيه من الإيمان والتقوى موالاته ومحبته والقيام بما أوجب الله من حقوقه : من ثناء ودعاء وغير ذلك ; وإن علم منه النفاق كما عرف نفاق جماعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عبد الله بن أبي وذويه وكما علم المسلمون نفاق سائر الرافضة : عبد الله بن سبأ وأمثاله : مثل عبد القدوس بن الحجاج ومحمد بن سعيد المصلوب ; فهذا يذكر بالنفاق . nindex.php?page=treesubj&link=28829_20465_20460وإن أعلن بالبدعة ولم يعلم هل كان منافقا أو مؤمنا مخطئا ذكر بما يعلم منه فلا يحل للرجل أن يقفو ما ليس له به علم ولا يحل له أن يتكلم في هذا الباب إلا قاصدا بذلك وجه الله تعالى وأن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله . فمن تكلم في ذلك بغير علم أو بما يعلم خلافه كان آثما .
ثم القائل في ذلك بعلم لا بد له من حسن النية فلو تكلم بحق لقصد العلو في الأرض أو الفساد كان بمنزلة الذي يقاتل حمية ورياء . وإن تكلم لأجل الله تعالى مخلصا له الدين كان من المجاهدين في سبيل الله من ورثة الأنبياء خلفاء الرسل . وليس هذا الباب مخالفا لقوله : { nindex.php?page=hadith&LINKID=600336الغيبة ذكرك أخاك بما يكره } فإن الأخ هو المؤمن والأخ المؤمن إن كان صادقا في إيمانه لم يكره ما قلته من هذا الحق الذي يحبه الله ورسوله وإن كان فيه شهادة عليه وعلى ذويه بل عليه أن يقوم بالقسط ويكون شاهدا لله ولو على نفسه أو والديه أو أقربيه ومتى كره هذا الحق كان ناقصا في إيمانه ينقص من أخوته بقدر ما نقص من إيمانه فلم يعتبر كراهته من الجهة التي نقص منها إيمانه ; إذ كراهته لما [ ص: 236 ] لا يحبه الله ورسوله توجب تقديم محبة الله ورسوله كما قال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=1306&ayano=9والله ورسوله أحق أن يرضوه } .
ثم قد يقال : هذا لم يدخل في حديث الغيبة لفظا ومعنى . وقد يقال : دخل في ذلك الذين خص منه كما يخص العموم اللفظي والعموم المعنوي وسواء زال الحكم لزوال سببه أو لوجود مانعه فالحكم واحد . والنزاع في ذلك يؤول إلى اللفظ ; إذ العلة قد يعني بها التامة وقد يعني بها المقتضية . والله أعلم وأحكم . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .