الفصل الثاني في دخولها فنقول : ليس لأحد أن يحتج على كراهة دخولها أو عدم استحبابه بكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخلها ولا أبو بكر وعمر فإن [ ص: 314 ] هذا إنما يكون حجة لو امتنعوا من وقصدوا اجتنابها أو أمكنهم دخولها فلم يدخلوها وقد علم أنه لم يكن في بلادهم حينئذ حمام فليس إضافة عدم الدخول إلى وجود مانع الكراهة أو عدم ما يقتضي الاستحباب بأولى من إضافته إلى فوات شرط الدخول وهو القدرة والإمكان . دخول الحمام
وهذا كما أن ما خلقه الله في سائر الأرض من القوت واللباس والمراكب والمساكن لم يكن كل نوع منه كان موجودا في الحجاز فلم يأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - من كل نوع من أنواع الطعام القوت والفاكهة ولا لبس من كل نوع من أنواع اللباس . ثم إن من كان من المسلمين بأرض أخرى : كالشام ومصر والعراق واليمن وخراسان وأرمينية وأذربيجان والمغرب وغير ذلك عندهم أطعمة وثياب مجلوبة عندهم أو مجلوبة من مكان آخر فليس لهم أن يظنوا ترك الانتفاع بذلك الطعام واللباس سنة ; لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يأكل مثله ولم يلبس مثله ; إذ عدم الفعل إنما هو عدم دليل واحد من الأدلة الشرعية وهو أضعف من القول باتفاق العلماء وسائر الأدلة من أقواله : كأمره ونهيه وإذنه من قول الله تعالى . . هي أقوى وأكبر ولا يلزم من عدم دليل معين عدم سائر الأدلة الشرعية .
[ ص: 315 ] وكذلك إجماع الصحابة أيضا من أقوى الأدلة الشرعية فنفي الحكم بالاستحباب لانتفاء دليل معين من غير تأمل باقي الأدلة خطأ عظيم فإن الله يقول : { وقدر فيها أقواتها } وقال تعالى : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } وقال تعالى : { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه } وقال تعالى : { والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون } ولم تكن البغال موجودة بأرض العرب ولم يركب النبي صلى الله عليه وسلم بغلة إلا البغلة التي أهداها له المقوقس من أرض مصر بعد صلح الحديبية . وهذه الآية نزلت بمكة . ومثلها في القرآن : يمتن الله على عباده بنعمه التي لم تكن بأرض الحجاز كقوله تعالى : { فلينظر الإنسان إلى طعامه } { أنا صببنا الماء صبا } { ثم شققنا الأرض شقا } . { فأنبتنا فيها حبا } { وعنبا وقضبا } { وزيتونا ونخلا } { وحدائق غلبا } . { وفاكهة وأبا } .
ولم يكن بأرض الحجاز زيتون ولا نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكل زيتونا . ولكن لعل الزيت كان يجلب إليهم .
وقد قال تعالى : { والتين والزيتون } ولم يكن بأرضهم لا هذا ولا هذا ولا نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكل منهما وكذلك قوله : { وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين } وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { } وقال تعالى : { كلوا الزيت وادهنوا [ ص: 316 ] به فإنه من شجرة مباركة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار } . وكذلك قوله : { وحدائق غلبا } .
وكذلك قوله في البحر : { لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها } وقوله : { والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون } { لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين } { وإنا إلى ربنا لمنقلبون } ولم يركب النبي صلى الله عليه وسلم البحر ولا أبو بكر ولا عمر . { لأم حرام بنت ملحان - وقالت : ادع الله أن يجعلني منهم فقال : أنت منهم } . وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بمن يركب البحر من أمته غزاة في سبيل الله كأنهم ملوك على الأسرة -
وكانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يطعم ما يجده في أرضه ويلبس ما يجده ويركب ما يجده مما أباحه الله تعالى فمن استعمل ما يجده في أرضه فهو المتبع للسنة . كما أنه حج البيت من مدينته فمن حج البيت من مدينة نفسه فهو المتبع للسنة وإن لم تكن هذه المدينة تلك . [ ص: 317 ] وكان صلى الله عليه وسلم يجاهد من يليه من الكفار من المشركين وأهل الكتاب فمن جاهد من يليه من هؤلاء فقد اتبع السنة وإن كان نوع هؤلاء غير نوع أولئك إذ أولئك كان غالبهم عربا ولهم نوع من الشرك هم عليه فمن جاهد سائر المشركين : تركهم وهندهم وغيرهم فقد فعل ما أمر الله به . وإن كانت أصنامهم ليست تلك الأصنام .
ومن جاهد اليهود والنصارى فقد اتبع السنة وإن كان هؤلاء اليهود والنصارى من نوع آخر غير النوع الذين جاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم فإنه جاهد يهود المدينة : كقريظة والنضير وبني قينقاع ويهود خيبر ; وضرب الجزية على نصارى نجران ; وغزا نصارى الشام عربها ورومها عام تبوك ولم يكن فيها قتال وأرسل إليهم زيدا وجعفرا وعبد الله بن رواحة قاتلوهم في غزوة مؤتة . وقال : أميركم زيد فإن قتل فجعفر فإن قتل فعبد الله بن رواحة .
وصالح أهل البحرين وكانوا مجوسا على الجزية وهم أهل هجر وفي الصحيح { البحرين فجعله في المسجد وما ثاب حتى قسمه } وهذا باب واسع قد بسطناه في غير هذا الموضع وميزنا بين السنة والبدعة وبينا أن أنه قدم مال هي ما قام الدليل الشرعي عليه بأنه طاعة لله ورسوله سواء فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعل [ ص: 318 ] على زمانه أو لم يفعله ولم يفعل على زمانه لعدم المقتضي حينئذ لفعله أو وجود المانع منه . السنة
فإنه إذا ثبت أنه أمر به أو استحبه فهو سنة . كما { اليهود والنصارى من جزيرة العرب } وكما جمع أمر بإجلاء الصحابة القرآن في المصحف وكما داوموا على قيام رمضان في المسجد جماعة وقد قال صلى الله عليه وسلم { } فشرع كتابة القرآن ; وأما كتابة الحديث فنهى عنها أولا وذلك منسوخ عند جمهور العلماء بإذنه لا تكتبوا عني غير القرآن ومن كتب عني غير القرآن فليمحه لعبد الله بن عمرو أن يكتب عنه ما سمعه في الغضب والرضا وبإذنه لأبي شاه أن يكتب له خطبته عام الفتح وبما كتبه لعمرو بن حزم من الكتاب الكبير الذي كتبه له لما استعمله على نجران وبغير ذلك .
والمقصود : هنا أن كتابة القرآن مشروعة لكن لم يجمعه في مصحف واحد . لأن نزوله لم يكن تم وكانت الآية قد تنسخ بعد نزولها فلوجود الزيادة والنقص لم يمكن جمعه في مصحف واحد حتى مات . وكذلك قيام رمضان . قد قال صلى الله عليه وسلم { } وقام في أول الشهر بهم ليلتين وقام في آخر الشهر ليالي وكان الناس يصلون على عهده في المسجد فرادى وجماعات لكن لم يداوم بهم على الجماعة خشية أن [ ص: 319 ] تفرض عليهم وقد أمن ذلك بموته . إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة
وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أهل السنن وصححه الترمذي وغيره : { الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة } فما سنه عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدون ليس بدعة شرعية ينهى عنها وإن كان يسمى في اللغة بدعة لكونه ابتدئ . كما قال عمر : نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل وقد بسطنا ذلك في قاعدة .