فصل كما قال : { والتذكر اسم جامع لكل ما أمر الله بتذكره أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير } أي قامت الحجة عليكم بالنذير الذي جاءكم وبتعميركم عمرا يتسع للتذكر .
[ ص: 189 ] وقد أمر سبحانه بذكر نعمه في غير موضع كقوله : { واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة } .
والمطلوب بذكرها شكرها كما قال : { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون } { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون } { كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } { فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون } .
وقوله : { كما أرسلنا فيكم رسولا منكم } يتناول كل من خوطب بالقرآن . وكذلك قوله : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم } . فالرسول من أنفس من خوطب بهذا الكلام إذ هي كاف الخطاب .
ولما خوطب به أولا قريش ثم العرب ثم سائر الأمم صار يخص ويعم بحسب ذلك .
وفيه ما يخص قريشا كقوله : { لإيلاف قريش } { إيلافهم رحلة الشتاء والصيف } . وقوله : { وإنه لذكر لك ولقومك } .
وفيه ما يعم العرب ويخصهم كقوله : { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته } والأميون يتناول العرب قاطبة دون أهل الكتاب .
ثم قال : { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم } . فهذا يتناول كل من دخل في الإسلام بعد دخول العرب فيه إلى يوم القيامة كما قال ذلك مقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد وغيرهما .
فإن قوله { وآخرين منهم } أي في الدين دون النسب إذ لو كانوا منهم في النسب لكانوا من الأميين .
وهذا كقوله تعالى : { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } .
وقد ثبت في الصحيح أن هذه الآية لما نزلت سئل النبي صلى الله عليه وسلم عنهم فقال : { فارس } . فهذا يدل على دخول هؤلاء لا يمنع دخول غيرهم من الأمم . لو كان الإيمان معلقا بالثريا لتناوله رجال من أبناء
وإذا كانوا هم منهم فقد دخلوا في قوله : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } . فالمنة على جميع المؤمنين عربهم وعجمهم سابقهم ولاحقهم . والرسول منهم لأنه إنسي مؤمن . وهو من العرب أخص لكونه عربيا جاء بلسانهم وهو من قريش أخص .
والخصوص يوجب قيام الحجة لا يوجب الفضل إلا بالإيمان والتقوى لقوله : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } .
ولهذا كان الأنصار أفضل من الطلقاء من قريش وهم ليسوا من ربيعة ولا مضر بل من قحطان .
وأكثر الناس على أنهم من ولد هود ليسوا من ولد إبراهيم .
وقيل إنهم من ولد إسماعيل لحديث أسلم لما قال { } ارموا فإن أباكم كان راميا وأسلم من خزاعة وخزاعة من ولد إبراهيم .
وفي هذا كلام ليس هذا موضعه إذ المقصود أن الأنصار أبعد نسبا من كل ربيعة ومضر مع كثرة هذه القبائل . و [ مع هذا هم أفضل ] من جمهور قريش إلا من السابقين الأولين من المهاجرين وفيهم قرشي وغير قرشي .
ومجموع السابقين ألف وأربعمائة غير مهاجري الحبشة .
[ ص: 192 ] فقوله : { لقد جاءكم } يخص قريشا والعرب ثم يعم سائر البشر لأن القرآن خطاب لهم . والرسول من أنفسهم والمعنى ليس بملك لا يطيقون الأخذ منه ولا جني .
ثم يعم الجن لأن الرسول أرسل إلى الإنس والجن والقرآن خطاب للثقلين والرسول منهم جميعا كما قال : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم } فجعل الرسل التي أرسلها من النوعين مع أنهم من الإنس .
فإن الإنس والجن مشتركون مع كونهم أحياء ناطقين مأمورين منهيين . فإنهم يأكلون ويشربون وينكحون وينسلون ويغتذون وينمون بالأكل والشرب . وهذه الأمور مشتركة بينهم . وهم يتميزون بها عن الملائكة فإن الملائكة لا تأكل ولا تشرب ولا تنكح ولا تنسل .
فصار الرسول من أنفس الثقلين باعتبار القدر المشترك بينهم الذي تميزوا به عن الملائكة حتى كان الرسول مبعوثا إلى الثقلين دون الملائكة .
وكذلك قوله : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } هو كقوله : { واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة } وقوله : { كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } .
ثم قال : { فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون } . والمقصود أنه أمر بذكر النعم وشكرها .
وقال : { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } في غير موضع . وقال للمؤمنين : { واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم } فذكر النعم من الذكر الذي أمروا به .
ومما أمروا به تذكرة قصص الأنبياء المتقدمين كما قال : { واذكر في الكتاب إبراهيم } { واذكر في الكتاب موسى } { واذكر في الكتاب إسماعيل } { واذكر في الكتاب إدريس } وقال { واذكر عبدنا داود ذا الأيد } { واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب } { واذكر إسماعيل واليسع } .
ومما أمروا به تذكرة ما وعدوا به من الثواب والعقاب . قال تعالى : { إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار } .
[ ص: 194 ] ومما أمروا بتذكره آيات الله التي يستدلون بها على قدرته وعلى المعاد كقوله : { ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا } { أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا } .
وقد قال لموسى : { وذكرهم بأيام الله } وهي تتناول أيام نعمه وأيام نقمه ليشكروا ويعتبروا .
ولهذا قال : { إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور } . فإن على فعل المأمور وإن كرهته النفس . وعن المحظور وإن أحبته النفس لئلا يصيبه ما أصاب غيره من النقمة . ذكر النعم يدعو إلى الشكر ; وذكر النقم يقتضي الصبر