. وهل الحمد على كل ما يحمد به الممدوح وإن لم يكن باختياره أو لا يكون الحمد إلا على الأمور الاختيارية
كما قيل في الذم ؟ فيه نظر ليس هذا موضعه . وفي الصحيح { } هذا لفظ الحديث . " أحق " أفعل التفضيل . وقد غلط فيه طائفة من المصنفين فقالوا { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول : ربنا ولك الحمد . ملء السماء وملء [ ص: 312 ] الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد . أحق ما قال العبد - وكلنا لك عبد - لا مانع لما أعطيت . ولا معطي لما منعت . ولا ينفع ذا الجد منك الجد } . وهذا ليس لفظ الرسول . وليس هو بقول سديد . فإن العبد يقول الحق والباطل . بل حق ما يقوله الرب . كما قال تعالى { حق ما قال العبد فالحق والحق أقول } . ولكن لفظه { } خبر مبتدأ محذوف . أي الحمد أحق ما قال العبد . أو هذا - وهو الحمد - أحق ما قال العبد . ففيه بيان : أن أحق ما قال العبد . ولهذا أوجب قوله في كل صلاة وأن تفتتح به الفاتحة . وأوجب قوله في كل خطبة وفي كل أمر ذي بال . والحمد ضد الذم . والحمد يكون على محاسن المحمود مع المحبة له كما أن الذم يكون على مساويه مع البغض له . الحمد لله أحق ما قاله العباد
فإذا قيل : إنه سبحانه يفعل الخير والحسنات وهو حكيم رحيم [ ص: 313 ] بعباده أرحم بعباده من الوالدة بولدها : أوجب ذلك أن يحبه عباده ويحمدوه . وأما إذا قيل : بل يخلق ما هو شر محض لا نفع فيه ولا رحمة ولا حكمة لأحد . وإنما يتصف بإرادة ترجح مثلا على مثل . لا فرق عنده بين أن يرحم أو يعذب . وليست نفسه ولا إرادته مرجحة للإحسان إلى الخلق بل تعذيبهم وتنعيمهم سواء عنده .
وهو - مع هذا - يخلق ما يخلق لمجرد العذاب والشر ويفعل ما يفعل لا لحكمة - ونحو ذلك مما يقوله الجهمية - : لم يكن هذا موجبا لأن يحبه العباد ويحمدوه . بل هو موجب للعكس . ولهذا فإن كثيرا من هؤلاء ينطقون بالذم والشتم والطعن . ويذكرون ذلك نظما ونثرا . وكثير من شيوخ هؤلاء وعلمائهم من يذكر في كلامه ما يقتضي هذا .
ومن لم يقله بلسانه فقلبه ممتلئ به لكن يرى أن ليس في ذكره منفعة أو يخاف من عموم المسلمين . وفي شعر طائفة من الشيوخ ذكر نحو هذا . وهؤلاء يقيمون حجج إبليس وأتباعه على الله . ويجعلون الرب ظالما لهم . [ ص: 314 ] وهو خلاف ما وصف الله به نفسه في قوله تعالى { وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين } وقوله { وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم } وقوله { وما ربك بظلام للعبيد } . كيف يكون ظالما ؟ وهم فيما بينهم لو أساء بعضهم إلى بعض أو قصر في حقه لكان يؤاخذه ويعاقبه وينتقم منه . ويكون ذلك عدلا إذا لم يعتد عليه . ولو : لم يكن هذا عذرا له عندهم باتفاق العقلاء . فإذا كان العقلاء متفقين على أن قال : إن الذي فعلته قدر علي فلا ذنب لي فيه
فكيف يجوز إسقاط حق الخالق احتجاجا بالقدر . وهو سبحانه الحكم العدل الذي لا يظلم مثقال ذرة . وإن تك حسنة يضاعفها . ويؤت من لدنه أجرا عظيما . وهذا مبسوط في غير هذا الموضع . فقوله { حق المخلوق لا يجوز إسقاطه احتجاجا بالقدر . } يقتضي : أن حمد الله أحق ما قاله العبد . فله الحمد على كل حال . لأنه لا يفعل إلا الخير [ ص: 315 ] والإحسان الذي يستحق الحمد عليه سبحانه وتعالى . أحق ما قال العبد
وإن كان العباد لا يعلمون . وهو سبحانه خلق الإنسان وخلق نفسه متحركة بالطبع حركة لا بد فيها من الشر لحكمة بالغة ورحمة سابغة . فإذا قيل : فلم لم يخلقها على غير هذا الوجه ؟ . قيل : كان يكون ذلك خلقا غير الإنسان . وكانت الحكمة التي خلقها بخلق الإنسان لا تحصل . وهذا سؤال الملائكة حيث قالوا { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } وما لم تعلمه الملائكة فكيف يعلمه آحاد الناس .
ونفس الإنسان خلقت كما قال الله تعالى { إن الإنسان خلق هلوعا } { إذا مسه الشر جزوعا } { وإذا مسه الخير منوعا } وقال تعالى { خلق الإنسان من عجل } . فقد خلقت خلقة تستلزم وجود ما وجد منها لحكمة عظيمة ورحمة عميمة . فكان ذلك خيرا ورحمة . وإن كان فيه شر إضافي كما تقدم .
فهذا من جهة الغاية مع أنه لا يضاف الشر إلى الله . وأما الوجه الثاني من جهة السبب : فإن هذا الشر إنما وجد لعدم [ ص: 316 ] العلم والإرادة التي تصلح النفس . فإنها خلقت بفطرتها تقتضي معرفة الله ومحبته . وقد هديت إلى علوم وأعمال تعينها على ذلك . وهذا كله من فضل الله وإحسانه . لكن النفس المذنبة لما لم يحصل لها من يكملها بل حصل لها من زين لها السيئات - من شياطين الإنس والجن - مالت إلى ذلك وفعلت السيئات .
فكان فعلها للسيئات . مركبا من عدم ما ينفع وهو الأفضل . ووجود هؤلاء الذين حيروها . والعدم لا يضاف إلى الله . وهؤلاء : القول فيهم كالقول فيها : خلقهم لحكمة . فلما كان عدم ما تعمل به وتصلح : هو أحد السببين . وكان الشر المحض الذي لا خير فيه : هو العدم المحض والعدم لا يضاف إلى الله . فإنه ليس شيئا . والله خالق كل شيء : كانت السيئات منها باعتبار [ أن ] ذاتها في نفسها مستلزمة للحركة الإرادية التي تحصل منها - مع عدم ما يصلحها - تلك السيئات .