القول في تأويل قوله تعالى :
[7 ] صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين
أي: بطاعتك وعبادتك، وهم المذكورون في قوله تعالى : ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين
[ ص: 24 ] "غير المغضوب عليهم ولا الضالين" قال الأصفهاني: وإنما ذكر تعالى هذه الجملة لأن الكفار قد شاركوا المؤمنين في إنعام كثير عليهم ، فبين بالوصف أن المراد بالدعاء ليس هو النعم العامة، بل ذلك نعمة خاصة ، ثم إن المراد بالمغضوب عليهم والضالين : كل من حاد عن جادة الإسلام من أي فرقة ونحلة ، وتعيين بعض المفسرين فرقة منهم من باب تمثيل العام بأوضح أفراده وأشهرها ، وهذا هو المراد بقول لا أعلم بين المفسرين اختلافا في أن المغضوب عليهم اليهود ، والضالين النصارى . ابن أبي حاتم:
(فوائد): الأولى : ; ومعناه : اللهم استجب ، أو كذلك فليكن ، أو كذلك فافعل : وليس من القرآن . بدليل أنه لم يثبت في المصاحف ، والدليل على استحباب التأمين ما رواه الإمام يستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها : "آمين" ، أحمد ، وأبو داود عن والترمذي قال : وائل بن حجر مد بها صوته . سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقال : « آمين » : رفع بها صوته . قال ولأبي داود : هذا حديث حسن ، وفي الباب عن الترمذي علي ، وروي عن وأبي هريرة علي وغيرهم. وابن مسعود
وعن قال : أبي هريرة رواه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا : غير المغضوب عليهم ولا الضالين . قال : « آمين » حتى يسمع من يليه من الصف الأول . . أبو داود
وفي الصحيحين عن رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أبي هريرة . « إذا أمن [ ص: 25 ] الإمام فأمنوا ، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر الله له ما تقدم من ذنبه»
وفي صحيح عن مسلم مرفوعا : أبي موسى . « إذا قال - يعني الإمام - ولا الضالين فقولوا : آمين يجبكم الله »
الثانية : في ذكر ما اشتملت عليه هذه السورة من العلوم .
اعلم أن هذه السورة الكريمة قد اشتملت - وهي سبع آيات – على حمد الله تعالى وتمجيده ، والثناء عليه : بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا ، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين ، وعلى إرشاد عبيده إلى سؤاله والتضرع إليه والتبرؤ من حولهم وقوتهم ، وإلى إخلاص العبادة له ، وتوحيده بالألوهية ، تبارك وتعالى ، وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل ، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم -وهو الدين القويم- وتثبيتهم عليه حتى يفضي بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ليكونوا مع أهلها يوم القيامة ، والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة ، وهم المغضوب عليهم والضالون .
قال العلامة الشيخ محمد عبده في تفسيره :
الفاتحة مشتملة على مجمل ما في القرآن . وكل ما فيه تفصيل للأصول التي وضعت فيها ، ولست أعني بهذا ما يعبرون عنه بالإشارة ودلالة الحروف كقولهم : إن أسرار [ ص: 26 ] القرآن في الفاتحة ، وأسرار الفاتحة في البسملة ، وأسرار البسملة في الباء ، وأسرار الباء في نقطتها ! فإن هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليهم الرضوان ، ولا هو معقول في نفسه ، وإنما هو من مخترعات الغلاة الذين ذهب بهم الغلو إلى إعدام القرآن خاصته ، وهي البيان - قال - وبيان ما أريد : أن أمور : ما نزل القرآن لأجله
أحدها التوحيد : لأن الناس كانوا كلهم وثنيين - وإن كان بعضهم يدعي التوحيد - .
ثانيها : وعد من أخذ به ، وتبشيره بحسن المثوبة ، ووعيد من لم يأخذ به ، وإنذاره بسوء العقوبة ، والوعد يشمل ما للأمة وما للأفراد ، فيعم نعم الدنيا والآخرة وسعادتهما . والوعيد - كذلك - يشمل نقمهما وشقاءهما ، فقد وعد الله المؤمنين : بالاستخلاف في الأرض ، والعزة ، والسلطان ، والسيادة . وأوعد المخالفين : بالخزي والشقاء في الدنيا . كما وعد في الآخرة بالجنة والنعيم وأوعد بنار الجحيم .
ثالثها : العبادة التي تحيي التوحيد في القلوب وتثبته في النفوس .
رابعها : بيان سبيل السعادة وكيفية السير فيه ، الموصل إلى نعم الدنيا والآخرة .
خامسها : قصص من وقف عند حدود الله تعالى ، وأخذ بأحكام دينه ، وأخبار الذين تعدوا حدوده ونبذوا أحكام دينه ظهريا لأجل الاعتبار ، واختيار طريق المحسنين .
هذه هي الأمور التي احتوى عليها القرآن ، وفيها حياة الناس وسعادتهم الدنيوية والأخروية ، والفاتحة مشتملة عليها إجمالا بغير ما شك ولا ريب .
فأما التوحيد ففي قوله : الحمد لله رب العالمين لأنه ناطق بأن كل حمد وثناء يصدر عن نعمة ما فهو له تعالى ، ولا يصح ذلك إلا إذا كان سبحانه مصدر كل نعمة في الكون تستوجب الحمد ، ومنها نعمة الخلق والإيجاد والتربية والتنمية ، ولم يكتف باستلزام العبارة لهذا المعنى فصرح به بقوله : "رب العالمين" . ولفظ "رب" ليس معناه المالك والسيد فقط ، بل فيه معنى التربية والإنماء . وهو صريح بأن كل نعمة يراها الإنسان في [ ص: 27 ] نفسه وفي الآفاق منه عز وجل . فليس في الكون متصرف بالإيجاد والإشقاء ، والإسعاد سواه . ثم إن التوحيد أهم ما جاء لأجله الدين . ولذلك لم يكتف في الفاتحة بمجرد الإشارة إليه ، بل استكمله بقوله : "إياك نعبد وإياك نستعين" فاجتث بذلك جذور الشرك والوثنية التي كانت فاشية في جميع الأمم، وهي اتخاذ أولياء من دون الله تعتقد لهم السلطة الغيبية ، يدعون لذلك من دون الله ، ويستعان بهم على قضاء الحوائج في الدنيا ، ويتقرب بهم إلى الله زلفى ، وجميع ما في القرآن من آيات التوحيد ومقارعة المشركين هو تفصيل لهذا الإجمال .
"وأما الوعد والوعيد: فالأول منهما مطوي في "بسم الله الرحمن الرحيم" فذكر الرحمة في أول الكتاب، وهي التي وسعت كل شيء . وعد بالإحسان – لا سيما وقد كررها مرة ثانية- تنبيها لنا على أن أمره إيانا بتوحيده وعبادته رحمة منه سبحانه بنا ، لأنه لمصلحتنا ومنفعتنا . وقوله تعالى : مالك يوم الدين يتضمن الوعد والوعيد معا ، لأن معنى الدين الخضوع ، أي : إن له تعالى في ذلك اليوم السلطان المطلق ، والسيادة التي لا نزاع فيها ، لا حقيقة ولا ادعاء ؛ وإن العالم كله يكون فيه خاضعا لعظمته -ظاهرا وباطنا - يرجو رحمته ، ويخشى عذابه ، وهذا يتضمن الوعد والوعيد ، أو معنى الدين الجزاء وهو : إما ثواب للمحسن ، وإما عقاب للمسيء ، وذلك وعد ووعيد ، وزد على ذلك أنه ذكر بعد ذلك "الصراط المستقيم" وهو الذي من سلكه فاز ، ومن تنكبه هلك ، وذلك يستلزم الوعد والوعيد .
وأما العبادة ، فبعد أن ذكرت في مقام التوحيد بقوله : إياك نعبد وإياك نستعين أوضح معناها بعض الإيضاح بقوله تعالى : اهدنا الصراط المستقيم أي : إنه قد وضع لنا صراطا سيبينه ويحدده . ويكون مناط السعادة في الاستقامة عليه ، والشقاء في الانحراف عنه ، وهذه الاستقامة عليه هي روح العبادة ، ويشبه هذا قوله تعالى : [ ص: 28 ] والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر فالتواصي بالحق والصبر هو كمال العبادة بعد التوحيد . والفاتحة بجملتها تنفخ روح العبادة في المتدبر لها ، وروح العبادة هي إشراب القلوب خشية الله ، وهيبته ، والرجاء لفضله ، لا الأعمال المعروفة من فعل وكف وحركات اللسان والأعضاء . فقد ذكرت العبادة في الفاتحة قبل ذكر الصلاة وأحكامها ، والصيام وأيامه ، وكانت هذه الروح في المسلمين قبل أن يكلفوا بهذه الأعمال البدنية ، وقبل نزول أحكامها التي فصلت في القرآن تفصيلا ما ؛ وإنما الحركات والأعمال مما يتوسل به إلى حقيقة العبادة ، ومخ العبادة الفكر والعبرة ؛ وأما الأخبار والقصص ففي قوله تعالى : صراط الذين أنعمت عليهم تصريح بأن هنالك قوما تقدموا ، وقد شرع الله شرائع لهدايتهم ، وصائح يصيح: ألا فانظروا في الشؤون العامة التي كانوا عليها واعتبروا بها ، كما قال تعالى لنبيه يدعوه إلى الاقتداء بمن كان قبله من الأنبياء : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده حيث بين أن القصص إنما هو للعظة والاعتبار . وفي قوله تعالى : غير المغضوب عليهم ولا الضالين تصريح بأن من دون المنعم عليهم فريقان : فريق ضل عن صراط الله ، وفريق جاحده ، وعاند من يدعو إليه ، فكان محفوفا بالغضب الإلهي ، والخزي في هذه الحياة الدنيا . وباقي القرآن يفصل لنا في أخبار الأمم هذا الإجمال على الوجه الذي يفيد العبرة ، فيشرح حال الظالمين الذين قاوموا الحق ، وحال الذين حافظوا عليه وصبروا على ما أصابهم في سبيله .
فتبين من مجموع ما تقدم : أن قد اشتملت إجمالا على الأصول التي يفصلها [ ص: 29 ] القرآن تفصيلا . فكان إنزالها أولا موافقا لسنة الله تعالى في الإبداع ، وعلى هذا تكون الفاتحة جديرة بأن تسمى "أم الكتاب" . الفاتحة
الثالثة : مما صح في فضلها من الأخبار : ما رواه في صحيحه عن البخاري أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال :
استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم » ؟ - ثم قال لي : « لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ؟ » ثم أخذ بيدي ، فلما أراد أن نخرج ، قلت : يا رسول الله ألم تقل « لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن » . قال : " الحمد لله رب العالمين ، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته » . كنت أصلي في المسجد فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم فلم أجبه . فقلت : يا رسول الله إني كنت أصلي . فقال : « ألم يقل الله :
وروى الإمام أحمد بإسناد حسن صحيح عن والترمذي ، نحوه ، غير أن القصة مع أبي هريرة وفي آخره : أبي بن كعب،
. «والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها ، إنها السبع المثاني»
واستدل بهذا الحديث وأمثاله على تفاضل بعض الآيات والسور على بعض ، كما هو المحكي عن كثير من العلماء منهم : ، إسحاق بن راهويه وأبو بكر بن العربي وابن الحضار من المالكية ، وذلك بين واضح.
وروى عن البخاري قال : أبي سعيد الخدري المدينة ، ذكرناه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : « وما كان يدريه أنها رقية ؟ اقمسوا واضربوا لي بسهم » . وهكذا رواه كنا في مسير لنا فنزلنا ، فجاءت جارية فقالت : إن سيد الحي سليم ، وإن نفرنا غيب ، [ ص: 30 ] فهل منكم واق ؟ فقام معها رجل ما كنا نأبنه برقية . فرقاه ، فبرأ ، فأمر له بثلاثين شاة ، وسقانا لبنا ؛ فلما رجع قلنا له : أكنت تحسن رقية ، أو كنت ترقي ؟ قال : لا ، ما رقيت إلا بأم الكتاب . قلنا : لا تحدثوا شيئا حتى نأتي ، أو نسأل ، النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما قدمنا مسلم ، وفي بعض روايات وأبو داود : أن مسلم هو الذي رقى ذلك السليم - يعني اللديغ ، يسمونه بذلك تفاؤلا - . أبا سعيد الخدري
وروى مسلم عن والنسائي قال : ابن عباس
جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه ، فرفع رأسه فقال : « هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم . فنزل منه ملك . فقال : هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم . فسلم وقال : أبشر بنورين قد أوتيتهما ، لم يؤتهما نبي قبلك ; فاتحة الكتاب وخواتيم البقرة ، لم تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته » . بينما
وروى عن مسلم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أبي هريرة : إنا نكون وراء الإمام . فقال : اقرأ بها في نفسك ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لأبي هريرة
« قال الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين قال الله : حمدني عبدي ، وإذا قال : الرحمن الرحيم قال الله تعالى : أثنى علي عبدي ، وإذا قال : مالك يوم الدين قال : مجدني عبدي - وقال مرة : فوض إلي عبدي - فإذا قال : إياك نعبد وإياك نستعين قال : هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال : هذا لعبدي ، ولعبدي ما سأل » . « من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج - ثلاثا - غير تمام » فقيل
ويكفي من شرح الفاتحة هذا المقدار الجليل ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .