القول في تأويل قوله تعالى :
[60 ] وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين
هذا تذكير لنعمة أخرى كفروها . روي في توراتهم أنه ارتحلت كل جماعة بني إسرائيل [ ص: 136 ] من برية سينا بأمره تعالى ، وحلوا في رقادين ، ولم يكن هناك ماء ليشربوا ، فخاصموا موسى ، وقالوا له أعطنا ماء لنشرب ، أخرجتنا من مصر لتقتلنا نحن وأولادنا ، ودوابنا بالعطش ؟ فابتهل موسى إلى ربه في السقيا ، فأوحى إليه أن امض أمام الشعب ، وخذ معك من شيوخ إسرائيل . والعصا التي ضربت بها النهر خذها بيدك . واذهب إلى صخرة حوريب ، فاضربها فيخرج منها ماء ليشرب الشعب . ففعل موسى كذلك أمام شيوخ إسرائيل . انتهى .
وقوله تعالى "اثنتا عشرة عينا" أي عدد أسباط يعقوب الاثني عشر ، لكل سبط منهم عين قد عرفوها . قال وأنكر ذلك بعض الطبيعيين واستبعده ، وهذا المنكر ، مع أنه لم يتصور قدرة الله تعالى في تغيير الطبائع والاستحالات الخارجة عن العادات ، فقد ترك النظر على طريقته . إذ قد تقرر عندهم أن حجر المغناطيس يجر الحديد ، وأن الحجر المنفر للنحل ينفره ، والحجر الحلاق يحلق الشعر ، وذلك كله عندهم من أسرار الطبيعة . وإذا لم يكن مثل ذلك منكرا عندهم ، فغير ممتنع أن يخلق الله حجرا يسخره لجذب الماء من تحت الأرض . اهـ. الراغب:
وقوله : ولا تعثوا في الأرض مفسدين أي لا تمشوا في الأرض بالفساد ، وخلاف أمر موسى . قال : فإن قيل : فما فائدة قوله "مفسدين" والعثو ضرب من الإفساد ؟ قيل : قد قال بعض النحويين : إن ذلك حال مؤكدة، وذكر ألفاظا مما يشبه . وقال بعض المحققين : إن العثو ، وإن اقتضى الفساد ، فليس بموضوع له ، بل هو كالاعتداء ، وقد يوجد في الاعتداء ما ليس بفساد ، وهو مقابلة المعتدي بفعله نحو : الراغب فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وهذا الاعتداء ليس بإفساد ، بل هو، بالإضافة إلى [ ص: 137 ] ما قوبل به ، عدل . ولولا كونه جزاء لكان إفسادا . فبين تعالى أن العثو المنهي عنه ، هو المقصود به الإفساد . فالإفساد مكروه على الإطلاق ، ولهذا قال : ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وقد يكون في صورة العثو والتعدي ما هو صلاح وعدل ، كما تقدم . وهذا ظاهر اهـ .