103- سورة العصر
مكية، وقيل مدنية، وآيها ثلاث.
[ ص: 6249 ] بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى:
[ 1 - 3 ] والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر
والعصر أي: الدهر، أقسم تعالى به لانطوائه على تعاجيب الأمور القارة والمارة. ولذا قيل له: (أبو العجب). ولأنه يذكر بما فيه من النعم وأضدادها. فينبه الإنسان على أنه مستعد للخسران والسعادة. وللتنويه به والتعظيم من شأنه، تعريضا ببراءته مما يضاف إليه من الخسران والذم. كما قيل:
يعيبون الزمان وليس فيه معيب غير أهل للزمان
وجوز أن يراد بالعصر الوقت المعروف الذي تجب فيه صلاة العصر.
قال الإمام: كان من عادة العرب أن يجتمعوا وقت العصر ويتحادثوا ويتذاكروا في شؤونهم، وقد يكون في حديثهم ما لا يليق أو ما يؤذي به بعضهم بعضا. فيتوهم الناس أن الوقت مذموم. فأقسم الله به لينبهك إلى أن الزمان في نفسه ليس مما يذم ويسب، كما اعتاد الناس أن يقولوا: (زمان مشؤوم)، و: (وقت نحس)، و: (دهر سوء)، وما يشبه ذلك. بل هو عاد للحسنات كما هو عاد للسيئات، وهو ظرف لشؤون الله الجليلة من خلق ورزق وإعزاز وإذلال وخفض ورفع. فكيف يذم في ذاته، وإنما قد يذم ما يقع فيه من الأفاعيل الممقوتة!
إن الإنسان لفي خسر أي: خسران، لخسارته رأس ماله الذي هو نور الفطرة والهداية الأصلية، بإيثار الحياة الدنيا واللذات الفانية والاحتجاب بها وبالدهر، وإضاعة الباقي في الفاني.
إلا الذين آمنوا أي: بالله وبما أنزل من الحق، إيمانا ملك إرادتهم [ ص: 6250 ] فلا يعملون إلا ما يوافق اعتقاداتهم، كما قال: وعملوا الصالحات قال القاشاني: أي: من الفضائل والخيرات، أي: اكتسبوها فربحوا زيادة النور الكمالي على النور الاستعدادي الذي هو رأس مالهم.
"وتواصوا بالحق" أي: أوصى بعضهم بعضا بما أنزل الله في كتابه من أمره، واجتناب ما نهى عنه من معاصيه وتواصوا بالصبر أي: على ما يبلو الله به عباده، أو على الحق، فإن الوصول إلى الحق سهل. وأما البقاء عليه والصبر معه بالاستقامة والجهاد لأجله، فذاك الذي يظهر به مصداق الإيمان وحقيقته.
تنبيهات:
الأول: قال الإمام ابن القيم في (مفتاح دار السعادة) قال رضي الله عنه: لو فكر الناس كلهم في هذه الصورة لكفتهم، وبيان ذلك أن المراتب أربعة وباستكمالها يحصل للشخص غاية كماله: الشافعي
إحداها: معرفة الحق. الثانية: عمله به.
الثالثة: تعليمه من لا يحسنه. الرابعة: صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه.
فذكر تعالى المراتب الأربعة في هذه السورة. وأقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر أن كل أحد في خسر، إلا الذين آمنوا، وهم الذين عرفوا الحق وصدقوا به، فهذه مرتبة. وعملوا الصالحات وهم الذين عملوا بما علموه من الحق فهذه أخرى. وتواصوا بالحق، وصى به بعضهم بعضا تعليما وإرشادا، فهذه مرتبة ثالثة. وتواصوا بالصبر صبروا على الحق ووصى بعضهم بعضا بالصبر عليه والثبات. فهذه مرتبة رابعة.
وهذا نهاية الكمال. فإن الكمال أن يكون الشخص كاملا في نفسه، مكملا لغيره. وكماله بإصلاح قوتيه العلمية والعملية، فصلاح القوة العلمية بالإيمان. وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات، وتكميله غيره بتعليمه إياه وصبره عليه وتوصيته بالصبر على العلم والعمل. فهذه السورة -على اختصارها- هي من بحذافيره. والحمد لله الذي جعل كتابه كافيا عن كل ما سواه، شافيا من كل داء، هاديا إلى كل خير. انتهى. أجمع سور القرآن للخير
[ ص: 6251 ] الثاني: قال الرازي: هذه السورة فيها وعيد شديد. وذلك لأنه تعالى حكم بالخسار على جميع الناس، إلا من كان آتيا بهذه الأشياء الأربعة. وهي: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر; فدل ذلك على أن النجاة معلقة بمجموع هذه الأمور. وأنه كما يلزم المكلف تحصيل ما يخص نفسه، فكذلك يلزمه في غيره أمور: منها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يحب له ما يحب لنفسه، ثم كرر التواصي ليتضمن الأول الدعاء إلى الله، والثاني الثبات عليه. والأول الدعاء إلى الدين، والنصيحة، والثاني الأمر بالمعروف، ومنه قوله تعالى: النهي عن المنكر. وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك وقال : رحم الله من أهدى إلي عيوبي. عمر
الثالث: قال الرازي: دلت الآية على أن الحق ثقيل، وأن المحن تلازمه; فلذلك قرن التواصي بالصبر.
الرابع: تخصص من اندراجهما في الأعمال الصالحة، لإبراز كمال الاعتناء بهما. التواصي بالحق والصبر،
قال الإمام: من تلك الأعمال الدعوة إلى الحق والوصية بالصبر، لكنه أراد تخصيص هذين الأمرين بالذكر، لأنهما حفاظ كل خير ورأس كل أمر. والحق هو ما تقرر من حقيقة ثابتة أو شريعة صحيحة، وهو ما أرشد إليه دليل قاطع أو عيان ومشاهدة. فشرط النجاة من الخسران أن يعرف الناس الحق ويلزموه أنفسهم، ويمكنوه من قلوبهم، ثم يحمل الناس بعضهم بعضا عليه، بأن يدعو كل صاحبه إلى الاعتقاد بالحقائق الثابتة التي لا ينازع فيها العقل ولا يختلف فيها النقل، وأن يبعدوا بأنفسهم وبغيرهم عن الأوهام والخيالات التي لا قرار للنفوس عليها ولا دليل يهدي إليها، ولا يكون ذلك إلا بإعمال الفكر وإجادة النظر في الأكوان، حتى تستطيع النفس دفع ما يرد عليها من باطل الأوهام، وهذا إطلاق للعقل من كل قيد، مع اشتراط التدقيق في النظر، لا الذهاب مع الطيش والانخداع [ ص: 6252 ] للعادة والوهم. ومن لم يأخذ نفسه بحمل الناس على الحق الصحيح بعد أن يعرفه فهو من الخاسرين. كم ترى في الآية بالنص الصريح الذي لا يقبل التأويل.
والصبر قوة للنفس على احتمال المشقة في العمل الطيب، واحتمال المكروه من الحرمان من اللذة، إن كان في نيلها ما يخالف حقا أو ما لا تأذن به الشريعة الصحيحة التي لا اختلاف فيها. واحتمال الآلام إذا عرضت المصائب بدون جزع ولا خروج في دفعها عن حدود الحق والشرع. فشرط النجاة من الخسران أن تصبر، وأن توصي غيرك بالصبر، وتحمله على تكميل قواه بهذه الفضيلة الشريفة، التي هي أم الفضائل بأسرها، ولا يمكنك حمله على ذلك حتى تكون بنفسك متحليا بها، وإلا دخلت في من يقول ولا يفعل كما يقول; فلم تكن ممن يعمل الصالحات. انتهى.
الخامس: قال الإمام: إنما قال: وتواصوا ولم يقل: (وأوصوا); ليبين أن النجاة من الخسران إنما تناط بحرص كل من أفراد الأمة على الحق، ونزوع كل منهم إلى أن يوصي به قومه ومن يهمه أمر الحق، ليوصي صاحبه بطلبه يهمه أن يرى الحق فيقبله، فكأن في هذه العبارة الجزلة قد نص على تواصيهم بالحق وقبولهم الوصية به إذا وجهت إليهم.
السادس: قال : ذكر ابن كثير من طريق الطبراني ، عن حماد بن سلمة ثابت، عن عبيد الله بن حصن، قال: كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر إلى آخرها. ثم يسلم أحدهما على الآخر. قال الإمام: قد ظن الناس أن ذلك كان للتبرك، وهو خطأ; وإنما كان ليذكر كل واحد منهما صاحبه بما ورد فيها، خصوصا من حتى يجتلب منه قبل التفرق، وصية خير لو كانت عنده. التواصي بالحق والتواصي بالصبر;
وقد فسر الإمام رحمه الله هذه السورة بتفسير على حدة لم يسبق إلى نظيره، فعلى من أراد التوسع في أسرارها، أن يرجع إليه.