القول في تأويل قوله تعالى:
[6] يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين .
يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أي: فاستظهروا صدقه من كذبه، بطريق آخر كراهة: أن تصيبوا قوما بجهالة أي: قوما براء مما قذفوا به بغية أذيتهم بجهالة لاستحقاقهم إياها، ثم يظهر لكم عدم استحقاقهم: فتصبحوا على ما فعلتم نادمين أي: فتندموا على إصابتكم إياها بالجناية التي تصيبونهم بها، وحق المؤمن أن يحترز مما يخاف منه الندم في العواقب.
تنبيهات:
الأول:- قال : ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في ابن كثير حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات الوليد بن عقبة بن أبي معيط، بني المصطلق. وقد روي ذلك من طرق. ومن أحسنها ما رواه في مسنده من رواية الإمام أحمد عن مالك ابن المصطلق، وهو الحارث بن ضرار والد رضي الله عنها. قال جويرية أم المؤمنين حدثنا الإمام أحمد: محمد بن سابق، حدثنا عيسى بن دينار، حدثني أبي أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي رضي الله عنه يقول:
فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه، احتبس عليه الرسول، فلم يأته، وظن الحارث أنه قد [ ص: 5448 ] حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله، فدعا بسروات قومه، فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقت لي وقتا يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة، فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الوليد بن عقبة الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة. فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق، فرجع حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن الحارث منعني الزكاة، وأراد قتلي. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث.
فأقبل الحارث بأصحابه، حتى إذا استقبل البعث، وفصل من المدينة، لقيهم الحارث، فقالوا: هذا الحارث! فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك. قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث إليك فزعم أنك منعته الزكاة، وأردت قتله! قال: لا، والذي بعث الوليد بن عقبة، محمدا بالحق، ما رأيته بتة، ولا أتاني. فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « منعت الزكاة، وأردت قتل رسولي؟! » قال: لا، والذي بعثك بالحق! ما رأيته بتة! ولا أتاني! وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم! خشيت أن تكون كانت سخطة من الله تعالى ورسوله. فنزلت الحجرات: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ إلى قوله: حكيم قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه، وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة، فأقررت بها وقلت: يا رسول الله! أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام، وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، وأرسل إلي يا رسول الله رسولا إبان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة.
وقال مجاهد : وقتادة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الوليد بن عقبة بني المصطلق يتصدقهم، فتلقوه بالصدقة، فرجع فقال: إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك -(زاد -: وإنهم قد ارتدوا عن الإسلام)، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قتادة رضي الله عنه إليهم، وأمره أن يتثبت ولا يعجل، فانطلق حتى أتاهم ليلا، فبعث عيونه، فلما جاءوا أخبروا خالد بن الوليد خالدا رضي الله عنه أنهم مستمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم. فلما أصبحوا أتاهم رضي الله عنه فرأى الذي يعجبه. فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال خالد فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « التثبت من الله، والعجلة من الشيطان » قتادة . وكذا ذكر غير واحد من السلف، منهم ابن أبي ليلى، ويزيد بن رومان، والضحاك، [ ص: 5449 ] وغيرهم في هذه الآية، أنها نزلت في ومقاتل، -والله أعلم- انتهى. الوليد بن عقبة
قال في (المعارف): ابن قتيبة الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، وهو أخو لأمه عثمان أروى بنت كريز . أسلم يوم فتح مكة، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا إلى بني المصطلق ، فأتاه فقال: منعوني الصدقة! وكان كاذبا. فأنزل الله هذه الآية. وولاه على صدقات عمر بني تغلب ، وولاه عثمان الكوفة بعد فصلى بأهلها صلاة الفجر، وهو سكران، أربعا، وقال: أزيدكم؟! فشهدوا عليه بشرب الخمر عند سعد بن أبي وقاص، فعزله وحده. ولم يزل عثمان، بالمدينة حتى بويع فخرج إلى علي، الرقة فنزلها، واعتزل عليا ومات بناحية ومعاوية. الرقة.
الثاني:- في (الإكليل): في الآية رد خبر الفاسق، راويا كان، أو شاهدا، أو مفتيا. ويستدل بالآية على واشتراط العدالة في المخبر، . قال قبول خبر الواحد العدل : ومن هنا امتنع طوائف من العلماء من قبول ابن كثير لاحتمال فسقه في نفس الأمر، وقبلها آخرون، لأنا إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق، وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال. رواية مجهول الحال،
الثالث:- في قوله تعالى: فتصبحوا على ما فعلتم نادمين فائدتان:
إحداهما- تقرير التحذير وتأكيده. ووجهه هو أنه تعالى لما قال: أن تصيبوا قوما بجهالة قال بعده: وليس ذلك مما لا يلتفت إليه، ولا يجوز للعاقل أن يقول: هب أني أصبت قوما، فماذا علي؟ بل عليكم منه الهم الدائم، والحزن المقيم. ومثل هذا الشيء واجب الاحتراز منه.
والثانية -مدح المؤمنين: أي: لستم، قال المهايمي : إذا فعلوا سيئة لا يلتفتون إليها، بل تصبحون نادمين عليها -أفاده الرازي-.
[ ص: 5450 ]