وقد أوجب الله علينا فعل المعروف وترك المنكر . فإن حب الشيء وفعله ، وبغض ذلك وتركه [ ص: 4483 ] لا يكون إلا بعد العلم بهما ، حتى يصح القصد إلى فعل المعروف وترك المنكر . فإن ذلك مسبوق بعلمه ، فمن لم يعلم الشيء لم يتصور منه حب له ولا بغض ، ولا فعل ولا ترك . لكن فعل الشيء والأمر به يقتضي أن يعلمه علما مفصلا يمكن معه فعله والأمر به إذا أمر به مفصلا . ولهذا أوجب الله على الإنسان معرفة ما أمر به من الواجبات مثل صفة الصلاة والصيام والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فإذا أمر بأوصاف فلا بد من العلم بثبوتها . فكما أنا لا نكون مطيعين إذا علمنا عدم الطاعة ، فلا نكون مطيعين إذا لم نعلم وجودها . بل الجهل بوجودها كالعلم بعدمها . وكل منهما معصية . فإن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في بيع الأموال الربوية .
وأما معرفة ما يتركه وينهى عنه فقد يكتفي بمعرفته في بعض المواضع مجملا . فإن الإنسان يحتاج إلى معرفة المنكر وإنكاره . وقد يحتاج إلى الحجج المبينة لذلك . وإلى الجواب عما يعارض به أصحابها ، وإلى دفع أهوائهم . وذلك يحتاج إلى إرادة جازمة وقدرة على ذلك . ولا يكون ذلك إلا بالصبر ، كما قال تعالى : والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر وأول ذلك أن تذكر الأقوال والأفعال على وجه الذم لها والنهي عنها .
وبيان ما فيها من الفساد . فإن الإنكار بالقلب واللسان ، قبل الإنكار باليد ، وهذه طريقة القرآن فيما يذكره تعالى عن الكفار والعصاة ، كما أن فيما يذكره أهل العلم والإيمان على وجه المدح والحب وبيان منفعته والترغيب فيه ، نحو قوله تعالى : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا الآيات . وهذا كثير جدا . فالذي يحب أقوالهم وأفعالهم هو منهم . إما كافر إما فاجر . وليس منهم من هو بعكسه . ولكن لا يثاب على مجرد عدم ذلك . وإنما يثاب على قصده لترك ذلك وإرادته ، وذلك مسبوق بالعلم بقبح ذلك وبغضه لله . وهذا العلم والقصد والبغض هو من الإيمان الذي يثاب عليه ، وهو أدنى الإيمان ، كما قال صلى الله عليه وسلم : إلى قوله : [ ص: 4484 ] من رأى منكم منكرا وتغيير القلب يكون بالبغض لذلك وكراهته ، وذلك لا يكون إلا بعد العلم به وبقبحه . وذلك أضعف الإيمان
ثم بعد ذلك يكون الإنكار باللسان ثم يكون باليد . والنبي صلى الله عليه وسلم قال : فيمن رأى المنكر . فأما إذا رآه ولم يعلم أنه منكر . ولم يكرهه ، لم يكن هذا الإيمان موجودا في القلب في حال وجوده ورؤيته ، بحيث يجب بغضه وكراهته ، والعلم بقبحه يوجب جهاد الكفار والمنافقين إذا وجدوا . وإذا لم يكن المنكر موجودا لم يجب ذلك ويثاب من أنكره عند وجوده ، ولا يثاب من لم يوجد عنده حتى ينكره وكذلك ما يدخل في ذلك من الأقوال والأفعال والمنكرات ، قد يعرض عنها كثير من الناس ، إعراضهم عن جهاد الكفار والمنافقين . وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فهؤلاء وإن كانوا من المهاجرين الذين هجروا السيئات ، فليسوا من المجاهدين الذين يجاهدون في إزالتها . حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ، فتدبر هذا فإنه كثيرا ما يجتمع في كثير من الناس هذان الأمران : بغض الكفر وأهله ، وبغض الفجور وأهله ، وبغض نهيهم وجهادهم ، كما يحب المعروف وأهله ، ولا يحب أن يأمر به ، ولا يجاهد عليه بالنفس والمال . وقد قال تعالى : « وذلك أضعف الإيمان » إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون وقال تعالى : قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله الآية . قال : لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم وكثير من الناس ، بل أكثرهم ، كراهتهم للجهاد على المنكرات أعظم من كراهتهم للمنكرات ، ولا سيما إذا كثرت المنكرات وقويت فيها الشبهات والشهوات . فربما مالوا إليها تارة وعنها أخرى . فتكون نفس أحدهم لوامة بعد أن كانت أمارة . [ ص: 4485 ]
ثم إذا ارتقى إلى الحال الأعلى في هجر السيئات ، وصارت نفسه مطمئنة ، تاركا للمنكرات والمكروهات ، لا تحب الجهاد ومصابرة العدو على ذلك ، واحتمال ما يؤذيه من الأقوال والأفعال فإن هذا شيء آخر داخل في قوله : ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم إلى قوله : وكان الله على كل شيء مقيتا والشفاعة : الإعانة . إذ المعين قد صار شفيعا للمعان . فكل من أعان على بر أو تقوى كان له نصيب منه . . وهذا حال الناس فيما يفعلونه بقلوبهم وألسنتهم وأيديهم ، من الإعانة على البر والتقوى والإعانة على الإثم والعدوان ، ومن ذلك الجهاد بالنفس والمال على ذلك من الجانبين . كما قال تعالى قبل ذلك : ومن أعان على الإثم والعدوان كان له كفل منه يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم إلى قوله : إن كيد الشيطان كان ضعيفا ومن ها هنا يظهر الفرق في السمع والبصر من الإيمان وآثاره والكفر وآثاره . والفرق بين المؤمن وبين الكافر الفاجر . فإن المؤمنين يسمعون إقبال أهل الإيمان فيشهدون رؤيتهم على وجه العلم والمعرفة والمحبة والتعظيم لهم ولأخبارهم وآثارهم ، كرؤية الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم وسمعهم لما بلغهم عن الله . والكافر والمنافق يسمع ويرى على وجه البغض والجهل كما قال تعالى : وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر الآية . وقال : فإذا أنـزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت وقال : ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون وقال : فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم وقال تعالى في حق المؤمنين : والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا [ ص: 4486 ] عليها صما وعميانا وقال في حق الكفار : فما لهم عن التذكرة معرضين والآيات في هذا كثيرة جدا . وكذلك النظر إلى زينة الدنيا فتنة . قال تعالى : ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه وفي آخر الحجر . وقوله : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم وقال : قل للمؤمنين : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم الآية ، وقال : ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا الآية ، وقال : أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت الآيات ، وقال : قل انظروا ماذا في السماوات والأرض الآية ، وقال : أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض الآية . وكذلك قال الشيطان : إني أرى ما لا ترون وقال : فلما تراءى الجمعان الآيات . وقال : إذ يريكهم الله في منامك قليلا الآيات . فالنظر إلى متاع الدنيا على وجه المحبة والتعظيم لها ولأهلها ، منهي عنه . والنظر إلى المخلوقات العلوية والسفلية على وجه الاعتبار مأمور به . وأما رؤية ذلك عند الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لدفع شر أولئك ، فمأمور به . وكذلك رؤية الاعتبار شرعا في الجملة . فالعين الواحدة ينظر إليها تارة نظرا مأمورا به . إما للاعتبار وإما لبغض ذلك . والنظر إليه لبغض الجهاد منهي عنه . وكذلك المولاة والمعاداة . وقد يحصل للعبد فتنة بنظر منهي عنه ، وهو يظن أنه نظرة عبرة . وقد يؤمر بالجهاد فيظن أن ذلك نظر فتنة ، كالذين قال الله فيهم : ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني فإنها نزلت في الجد بن قيس لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتجهز لغزو الروم فقال : إني مغرم بالنساء وأخاف الفتنة بنساء الروم . فهذا ونحوه مما يكون باللسان من القول . وأما [ ص: 4487 ] ما يكون من الفعل بالجوارح ، فكل عمل يتضمن محبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ، داخل في هذا . بل يكون عذابه أشد . فإن الله قد توعد بالعذاب على مجرد المحبة . وهذه قد لا يقترن بها قول ولا فعل . فكيف إذا اقترن ؟ بل على الإنسان أن يبغض ما أبغضه الله تعالى من فعل الفاحشة والقذف بها وإشاعتها في الذين آمنوا . . كما حشرت ومن رضي عمل قوم حشر معهم امرأة لوط معهم . ولم تكن تفعل فاحشة اللواط . فإنه لا يقع من المرأة . ولكن لما رضيت فعلهم ، عمها معهم العذاب . فمن هذا الباب قيل : من أعان على الفاحشة وإشاعتها ، مثل القواد . لما يحصل له من رياسة أو سؤدد أو سحت يأكله . وكذلك أهل الصناعات التي تنفق ، مثل المغنين وشربة الخمر وضمان الجهات السلطانية وغيرها ، فإنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا . فإنها إذا شاعت تمكنوا من أغراضهم من الرياسة والمال وفعل الفاحشة وتمكنوا من دفع من ينكرها ، بخلاف ما إذا كانت قليلة . ولا خلاف بين المسلمين أن محرم . كما قال تعالى : ما يدعوا إلى معصية الله وينهى عن طاعته ، منهي عنه إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر أي : ما فيها من ذكر الله وطاعته وامتثال أمره أكبر من ذلك . وقال في الخمر والميسر : ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة أي : يوقعكم ذلك في معصيته التي هي العداوة والبغضاء ، وهذا من أعظم المنكرات التي تنهى عنه الصلاة ، والخمر تدعو إلى الفحشاء والمنكر ، كما هو الواقع . فإن شارب الخمر تدعوه نفسه إلى الجماع حلالا كان أو حراما . فإن الله سبحانه لم يذكر الجماع ، لأن الخمر لا يدعو إلى الحرام بعينه من الجماع . والسكر يزيل العقل الذي يميز به بين الحلال والحرام . والعقل الصحيح ينهى عن مواقعة الحرام . ولهذا يكثر شارب الخمر من مواقعة الفواحش . ما لا يكثر من غيرها ، حتى ربما يقع على ابنته وابنه ومحارمه . وقد يستغني بالحلال إذا أمكنه . ويدعو شرب الخمر [ ص: 4488 ] إلى أكل أموال الناس بالسرقة والمحاربة وغير ذلك . لأنه يحتاج إلى الخمر وما يستتبعه من مأكول وغير ذلك من فواحش وغناء . وشرب الخمر يظهر أسرار الرجال ، حتى يتكلم شاربه بما في باطنه وكثير من الناس إذا أرادوا استفهام ما في قلوب الرجال من الأسرار ، سقوهم الخمر ، وربما يشربون معهم ما لا يسكرون به . وأيضا فالخمر تصد الإنسان عن علمه وتدبيره . فجميع الأمور التي تصد عنها وتوقعها من المفاسد داخل في قوله تعالى : ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة وكذلك ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : إيقاع العداوة والبغضاء هو منتهى قصد الشيطان وقد ذكرنا في غير هذا أن الفواحش والظلم وغير ذلك من الذنوب يوقع العداوة والبغضاء وأن كل عداوة أو بغضاء فأصلها من المعصية والشيطان يأمر بالمعصية ليوقع فيما هو أعظم منها ولا يرضى إلا بغاية ما قدر على ذلك . وأيضا فالعداوة والبغضاء شر محض ، لا يحبهما عاقل . بخلاف المعاصي فإن فيها لذة . والنفوس تريدها ، والشيطان يدعو إليها ، ليوقعها في شر لا تهواه . والله سبحانه قد بين ما يريد الشيطان بالخمر والميسر ، ولم يذكر ما يريده الإنسان . ثم قال في سورة النور : « ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر » قالوا بلى يا رسول الله ; قال : « إصلاح ذات البين . فإن فساد ذات البين هي الحالقة . لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين » لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر وكذلك في البقرة نهى عن اتباع خطواته ، وهو اتباع أمره بالاقتداء والاتباع . وأخبر أنه يأمر بالفحشاء والمنكر والسوء والقول على الله بلا علم . وقال فيها : الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء فذكر أن الشيطان يأمر بذلك وبعد هذا : والله يعدكم مغفرة منه وفضلا وقال : إن الله يأمر بالعدل [ ص: 4489 ] والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي وقال عن نبيه : يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر الآية ، وقال عن أمته : ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ذكر مثل ذلك في مواضع كثيرة فتارة يخص اسم المنكر بالنهي ، وتارة يقرنه بالفحشاء ، وتارة يقرن معهما البغي . وكذلك المعروف ، تارة يخصه بالأمر ، وتارة يقرن به غيره . كقوله تعالى : لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس الآية ، وذلك أن الأسماء قد يكون عمومها وخصوصها بحسب الإفراد والتركيب . كلفظ (الفقير والمسكين ) . إذا عرف هذا فاسم المنكر يعم كل ما كرهه الله ونهى عنه . واسم المعروف يعم كل ما يحبه الله ويرضاه . وإذا قرن المنكر بالفحشاء ، فالفحشاء مبناها على المحبة . والمنكر هو الذي تنكره القلوب . فقد يظن أن ما في الفاحشة من المحبة يخرجها عن الدخول فيه . فإن الفاحشة وإن كانت مما تنكره القلوب فإنها تشتهيها النفوس . وكذلك البغي ، قرن بها لأنه أبعد عن محبة النفوس . ولهذا كان جنس عذاب صاحبه أعظم من جنس عذاب صاحب الفحشاء . ومنشؤه من قوة الغضب . ولكل من النفوس لذة بحصول مطلوبها . فالفواحش والبغي مقرونان بالمنكر . وأما الإشراك والقول على الله بلا علم ، فإنه منكر محض . ليس في النفوس ميل إليهما . بل إنما يكونان عن عناد وظلم . فهما منكر محض بالفطرة : ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر سواء كان الضمير عائدا إلى الشيطان أو إلى المتبع . فإن من أتى ذلك ، فإن كان الشيطان أمره فهو متبعه عابد له . وإن كان الآتي هو الآمر . فالأمر بالفعل أبلغ من فعله . فمن أمر بها غيره رضيها لنفسه .