القول في تأويل قوله تعالى:
[195] وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين
وأنفقوا في سبيل الله أمر بالإنفاق في سائر وجوه القربات والطاعات. ومن أهمها: صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم.
[ ص: 480 ] وقوله تعالى: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة أي: ما يؤدي إلى الهلاك أي: لا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى الهلاك، وذلك بالتعرض لما تستوخم عاقبته، جهلا به.
وقال وللآية تأويلان بنظرين: الراغب:
أحدهما: إنه نهي عن وعن التهور في الإقدام. الإسراف في الإنفاق،
والثاني: إنه نهي عن وعن البخل بالمال، وكلا المعنيين يراد بها. فالإنسان، كما أنه منهي عن الإسراف في الإنفاق، والتهور في الإقدام، فهو منهي عن البخل والإحجام عن الجهاد، ولهذا قال تعالى: القعود عن الجهاد. والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا الآية، وقال: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك الآية.
ولما كان أمر الإنفاق أخص بالأنصار الذين كانوا أهل الأموال، لتجرد المهاجرين عنها، وقد اشتهر في هذه الآية حديث رواه أبي أيوب الأنصاري، أبو داود، والترمذي، والنسائي في صحيحه، وابن حبان في مستدركه وغيرهم... ولفظ والحاكم عن الترمذي: أسلم أبي عمران قال: الروم فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر. وعلى أهل مصر وعلى الجماعة عقبة بن عامر، فضالة بن عبيد. فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل عليهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة. فقام فقال: يا أيها الناس إنكم لتؤولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر أبو أيوب الأنصاري الأنصار. لما أعز الله [ ص: 481 ] الإسلام، وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سرا - دون رسول الله صلى الله عليه وسلم -: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام، وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم يرد علينا ما قلنا: وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها، وتركنا الغزو. فما زال شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض أبو أيوب الروم، هذا حديث حسن غريب صحيح. كنا بمدينة
أقول: إنكار أبي أيوب رضي الله عنه إما لكونه لا يقول بعموم اللفظ بل بخصوص السبب، وإما لرد زعم أنها نزلت في القتال. أي: في حمل الواحد على جماعة العدو كما تأولوها. وهذا هو الظاهر. وإلا فاللفظ يقتضي العموم، ووروده على السبب لا يصلح قرينة لقصره على ذلك. ولا شبهة أن التعبد إنما هو باللفظ الوارد وهو عام.
وقد استشهد بعموم الآية فيما رواه عمرو بن العاص بسنده: أن ابن أبي حاتم عبد الرحمن الأسود بن عبد يغوث أخبر أنهم حاصروا دمشق. فانطلق رجل من أزد شنوءة، فأسرع إلى العدو وحده ليستقبل، فعاب ذلك عليه المسلمون، ورفعوا حديثه إلى فأرسل إليه عمرو بن العاص، فرده. وقال عمرو قال الله: عمرو: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة
وقد روي في سبب نزولها آثار ضعيفة ساقها وهي - والله أعلم - من باب صدق عمومها على ما رووه. ابن كثير
تنبيه:
قال تدل الآية على جواز الهزيمة في الجهاد إذا خيف على النفس، وتدل على جواز الحاكم: لأن كل ذلك إلقاء النفس إلى التهلكة. وتدل على جواز ترك الأمر بالمعروف إذا خاف، كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عام مصالحة الكفار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين. الحديبية. وكما فعله أمير المؤمنين عليه السلام علي بصفين. وكما فعله عليه السلام من مصالحة الحسن وتدل أيضا على جواز معاوية. ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يصالح يوم الأحزاب بثلث ثمار مصالحة الإمام بشيء من أموال الناس إذا [ ص: 482 ] خشي التهلكة. المدينة حتى شاور سعد بن معاذ فأشارا بترك ذلك. وهو لا يعزم إلا على ما يجوز. وسعد بن عبادة،
لطيفة:
الإلقاء لغة: طرح الشيء، عدي بإلى لتضمن معنى الانتهاء، والباء مزيدة في المفعول لتأكيد معنى النهي. والمراد بالأيدي: الأنفس، فذكر الجزء وإرادة الكل لمزيد اختصاص لها باليد. بناء على أن أكثر ظهور أفعال النفس بها. والتهلكة والهلاك والهلك واحد. فهي مصدر. أي: لا توقعوا أنفسكم في الهلاك.
والتهلكة بضم اللام. قال الخارزنجي: لا أعلم في كلام العرب مصدرا على تفعلة - بضم العين - إلا هذا.
وقال اليزيدي: هو من نوادر المصادر. ولا يجري على القياس.
قال ويجوز أن يقال: أصلها التهلكة كالتجربة والتبصرة ونحوهما. على أنها مصدر من هلك. فأبدلت من الكسرة ضمة، كما جاء الجوار في الجوار هذا ما ذكروه. الزمخشري:
قال الفخر الرازي - ولله دره - بعد نقله نحو ما سبق: وإني لأتعجب كثيرا من تكلفات هؤلاء النحويين في أمثال هذه المواضع، وذلك أنهم لو وجدوا شعرا مجهولا يشهد لما أرادوه فرحوا به واتخذوه حجة قوية. فورود هذا اللفظ في كلام الله تعالى، المشهود له من الموافق والمخالف بالفصاحة - أولى أن يدل على صحة هذه اللفظة واستقامتها.
وأحسنوا أي: تحروا فعل الإحسان، أي: الإتيان بكل ما هو حسن، ومن أجله الإنفاق. وقوله: إن الله يحب المحسنين قال نبه بإظهار المحبة للمحسنين على شرف منزلتهم وفضيلة أفعالهم. الراغب: