القول في تأويل قوله تعالى :
[ 3 ] وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم .
وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله ( الأذان ) بمعنى الإيذان ، وهو الإعلام ، كما أن الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء .
وارتفاعه كارتفاع : ( براءة ) وهذه الجملة معطوفة على مثلها ، والفرق بين معنى الجملة الأولى والثانية أن تلك إخبار بثبوت البراءة ، وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت ، وإنما علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين ، وعلق الأذان بالناس ، لأن البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم ، وأما الأذان فعام لجميع الناس ، من عاهد ومن لم يعاهد ، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث كذا في ( " الكشاف " ) .
ويوم الحج الأكبر : قيل يوم عرفة ، وقيل يوم النحر .
[ ص: 3068 ] قال ابن القيم : وهو الصواب ، لأنه ثبت في الصحيحين أن أبا بكر رضي الله عنهما ، أذنا بذلك يوم النحر ، لا يوم وعليا عرفة .
وفي سنن بأصح إسناد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أبي داود ، وكذلك قال يوم الحج الأكبر يوم النحر وجماعة من الصحابة . أبو هريرة
ويوم عرفة مقدمة ليوم النحر بين يديه ، فإن فيه يكون الوقوف والتضرع والتوبة والابتهال والاستقامة ، ثم يوم النحر تكون الوفادة والزيارة ، ولهذا سمي طوافه طواف الزيارة ، لأنهم قد طهروا من ذنوبهم يوم عرفة ، ثم أذن لهم يوم النحر في زيارته ، والدخول عليه إلى بيته ، ولهذا كان فيه ذبح القرابين ، وحلق الرؤوس ، ورمي الجمار ومعظم أفعال الحج وعمل يوم عرفة ، كالطهور والاغتسال بين يدي هذا اليوم ، انتهى .
تنبيه :
روى الأئمة هاهنا آثارا كثيرة ، نأتي منها على جوامعها :
قال عن ابن أبي نجيح : مجاهد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ( تبوك ) حين فرغ ، فأراد الحج ثم قال : « إنما يحضر المشركون فيطوفون عراة فلا أحب أن أحج » ، حتى لا يكون ذلك : فأرسل أبا بكر فطافا بالناس في وعليا ( ذي المجاز ) وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها ، وبالمواسم كلها ، فآذنوا أصحاب العهد بأن يؤمنوا أربعة أشهر ، فهي الأشهر المتواليات ، [ ص: 3069 ] عشرون من ذي الحجة ، إلى عشر يخلون من ربيع الآخر ، ثم لا عهد لهم ، وآذن الناس كلهم بالقتال ، إلى أن يؤمنوا .
وروى بسنده عن ابن إسحاق أبي جعفر محمد بن علي رضوان الله عليه قال : لما نزلت [براءة] على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان بعث رضي الله عنه ليقيم للناس الحج ، قيل له : يا رسول الله لو بعثت بها إلى أبا بكر الصديق ، فقال : « لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي » ، ثم دعا أبي بكر رضوان الله عليه ، فقال له : « اخرج بهذه القصة من صدر براءة ، وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا علي بن أبي طالب بمنى ، أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته » .
فخرج على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ( العضباء ) ، حتى أدرك علي بن أبي طالب ، فلما رآه أبا بكر الصديق بالطريق قال : أمير أو مأمور ؟ فقال : بل مأمور ، ثم مضيا ، فأقام أبو بكر للناس الحج ، أبو بكر والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية ، حتى إذا كان يوم النحر قام رضي الله عنه ، فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : « أيها الناس إنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف علي بن أبي طالب بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته » .
وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم ، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم ، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة ، إلا أحد كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدة ، فهو له إلى مدته ، فلم يحج بعد ذلك العام مشرك ، ولم يطف بالبيت عريان .
ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال : فكان هذا من أمر ( براءة ) فيمن كان من أهل الشرك من أهل [ ص: 3070 ] العهد العام ، وأهل المدة إلى الأجل المسمى . ابن إسحاق
وروى عن البخاري قال : بعثني أبي هريرة رضي الله عنه في تلك الحجة في المؤذنين ، بعثهم يوم النحر يؤذنون أبو بكر بمنى : « ألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان » .
قال حميد : ، فأمره أن يؤذن ببراءة . بعلي بن أبي طالب
قال : فأذن معنا علي في أهل أبو هريرة منى يوم النحر ببراءة ، وألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان . ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم
وفي رواية أخرى ، قال للبخاري : بعثني أبو هريرة فيمن يؤذن يوم النحر أبو بكر بمنى : لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ويوم الحج الأكبر يوم النحر ، وإنما قيل ( الأكبر ) من أجل قول الناس - للعمرة - الحج الأصغر ، فنبذ إلى الناس في ذلك العام ، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرك . هذا لفظ أبو بكر في ( " كتاب الجهاد " ) . البخاري
وروى الإمام أحمد قال : كنت مع أبي هريرة حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل علي بن أبي طالب مكة ب ( براءة ) ، فقال : ما كنتم تنادون ؟ قال : كنا ننادي : « أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فإن أجله - أو أمده - إلى أربعة أشهر ، فإذا مضت الأربعة الأشهر ، فإن الله بريء من المشركين ورسوله ، ولا يحج هذا البيت بعد العام مشرك » . قال : فكنت أنادي حتى صحل صوتي ، ( صحل الرجل وصحل صوته : بح ) . عن
[ ص: 3071 ] وقوله تعالى : فإن تبتم فهو خير لكم أي : فإن تبتم أيها المشركون ، من كفركم ورجعتم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد ، فهو خير لكم من الإقامة على الشرك رأس الضلال والفساد وإن توليتم أي : عن الإيمان وأبيتم إلا الإقامة على ضلالكم وشرككم فاعلموا أنكم غير معجزي الله أي : غير فائتين أخذه وعقابه وبشر الذين كفروا أي : جحدوا نبوتك وخالفوا أمر ربهم بعذاب أليم أي : موجع يحل بهم .
وفيه من التهكم والتهديد ما فيه ، كيلا يظن أن عذاب الدنيا ، لو فات وزال خلصوا من العذاب ، بل العذاب معد لهم يوم القيامة .
ثم استثنى تعالى من ضرب مدة التأجيل ، لمن له عهد مطلق بأربعة أشهر ، ومن له عهد مؤقت بتأجيله إلى مدته المضروبة التي عوهد عليها ، فقال سبحانه :