والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون . والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة . وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون . والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون . وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين . ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل . إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم . ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور .
قوله تعالى: والذين يجتنبون كبائر الإثم وقرأ حمزة، "كبير الإثم" على التوحيد من غير ألف، والباقون بألف . وقد شرحنا الكبائر في سورة [النساء: 31] . وفي المراد بالفواحش هاهنا قولان . أحدهما: الزنا . والثاني: موجبات الحدود . والكسائي:
قوله تعالى: وإذا ما غضبوا هم يغفرون أي: يعفون عمن ظلمهم [ ص: 291 ] طلبا لثواب الله تعالى .
والذين استجابوا لربهم أي: أجابوه فيما دعاهم إليه .
وأمرهم شورى بينهم قال : أي: يتشاورون فيه [بينهم] . وقال ابن قتيبة : المعنى أنهم لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه . الزجاج
قوله تعالى: والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون اختلفوا في [هذا] البغي على ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه بغي الكفار على المسلمين . قال هم المؤمنون الذين أخرجهم الكفار من عطاء: مكة وبغوا عليهم، ثم مكنهم الله منهم فانتصروا . وقال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين زيد بن أسلم: بمكة، فرقة كانت تؤذى فتعفو عن المشركين، وفرقة كانت تؤذى فتنتصر، فأثنى الله عز وجل عليهم جميعا، فقال في الذين لم ينتصروا: وإذا ما غضبوا هم يغفرون ، وقال في المنتصرين: والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون أي: من المشركين . وقال ابن زيد: ذكر المهاجرين، وكانوا صنفين، صنفا عفا، و صنفا انتصر، فقال: "وإذا ما غضبوا هم يغفرون"، فبدأ بهم، وقال في المنتصرين: "والذين إذا أصابهم [ ص: 292 ] البغي هم ينتصرون" أي: من المشركين; وقال: "والذين استجابوا لربهم: إلى قوله: "ينفقون" وهم الأنصار; ثم ذكر الصنف الثالث فقال: "والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون" من المشركين .
والثاني: أنه بغي المسلمين على المسلمين خاصة .
والثالث: أنه عام في جميع البغاة، سواء كانوا مسلمين أو كافرين .
فصل
واختلف في هذه الآية علماء الناسخ والمنسوخ، فذهب بعض القائلين بأنها في المشركين إلى أنها منسوخة بآية السيف، فكأنهم يشيرون إلى أنها أثبتت الانتصار بعد بغي المشركين، فلما جاز لنا أن نبدأهم بالقتال، دل على أنها منسوخة . وللقائلين بأنها في المسلمين قولان .
أحدهما: أنها منسوخة بقوله: ولمن صبر وغفر [الشورى: 43] فكأنها نبهت على مدح المنتصر، ثم أعلمنا أن الصبر والغفران أمدح، فبان وجه النسخ .
والثاني: أنها محكمة، لأن الصبر والغفران فضيلة، والانتصار مباح، فعلى هذا تكون محكمة، [وهو الأصح] .
فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية -وظاهرها مدح المنتصر- وبين آيات الحث على العفو؟ فعنه ثلاثة أجوبة .
أحدها: أنه انتصار المسلمين من الكافرين، وتلك رتبة الجهاد كما ذكرنا عن عطاء .
[ ص: 293 ] والثاني: أن المنتصر لم يخرج عن فعل أبيح له، وإن كان العفو أفضل، ومن لم يخرج من الشرع بفعله، حسن مدحه . قال ابن زيد: جعل الله المؤمنين صنفين، صنف يعفو، فبدأ بذكره، وصنف ينتصر .
والثالث: أنه إذا بغى على المؤمن فاسق، فلأن له اجتراء الفساق عليه، وليس للمؤمن أن يذل نفسه، فينبغي له أن يكسر شوكة العصاة لتكون العزة لأهل الدين . قال كانوا يكرهون للمؤمنين أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفساق، فإذا قدروا عفوا . وقال إبراهيم النخعي: هذه الآية محمولة على من تعدى وأصر على ذلك، وآيات العفو محمولة على أن يكون الجاني نادما . القاضي أبو يعلى:
قوله تعالى: وجزاء سيئة سيئة مثلها قال مجاهد هو جواب القبيح، إذا قال له كلمة إجابة بمثلها من غير أن يعتدي . وقال والسدي: هذا في القصاص في الجراحات والدماء . مقاتل:
فمن عفا فلم يقتص وأصلح العمل فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين يعني من بدأ بالظلم . وإنما سمى المجازاة سيئة، لما بينا عند قوله: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه [البقرة: 194] . قال إذا كان يوم القيامة نادى مناد: ليقم من كان أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا . الحسن:
ولمن انتصر بعد ظلمه أي: بعد ظلم الظالم إياه; والمصدر هاهنا مضاف إلى المفعول، ونظيره: من دعاء الخير [فصلت: 49] و بسؤال نعجتك [ص: 24]، فأولئك يعني المنتصرين ما عليهم من سبيل أي: من طريق إلى لوم ولا حد، إنما السبيل على الذين يظلمون الناس أي: يبتدؤون بالظلم ويبغون في الأرض بغير الحق أي: يعملون فيها بالمعاصي .
[ ص: 294 ] قوله تعالى: ولمن صبر فلم ينتصر وغفر إن ذلك الصبر والتجاوز لمن عزم الأمور وقد شرحناه في [آل عمران: 186] .