[ ص: 277 ] قوله تعالى : " فلما دخلوا عليه " في الكلام محذوف ، تقديره : فخرجوا إلى مصر ، فدخلوا على يوسف فـ " قالوا : يا أيها العزيز " وكانوا يسمون ملكهم بذلك ، " مسنا وأهلنا الضر " يعنون الفقر والحاجة " وجئنا ببضاعة مزجاة " .
وفي ماهية تلك البضاعة سبعة أقوال :
أحدها : أنها كانت دراهم ، رواه عن العوفي . والثاني : أنها كانت متاعا رثا كالحبل والغرارة ، رواه ابن عباس عن ابن أبي مليكة . والثالث : كانت أقطا ، قاله ابن عباس . والرابع : كانت نعالا وأدما ، رواه الحسن جويبر عن . والخامس : كانت سويق المقل ، روي عن الضحاك أيضا . والسادس : حبة الخضراء وصنوبر ، قاله الضحاك . والسابع : كانت صوفا وشيئا من سمن ، قاله أبو صالح عبد الله بن الحارث .
وفي المزجاة خمسة أقوال :
أحدها : أنها القليلة . روى عن العوفي قال : دراهم غير طائلة ، وبه قال ابن عباس ، مجاهد ، وابن إسحاق . قال وابن قتيبة : تأويله في اللغة أن التزجية : الشيء الذي يدافع به ، يقال : فلان يزجي العيش ، أي : يدفع بالقليل ويكتفي به ، فالمعنى : جئنا ببضاعة إنما ندافع بها ونتقوت ، وليست مما يتسع به ، قال الشاعر : الزجاج
[ ص: 278 ]
الواهب المائة الهجان وعبدها عوذا تزجي خلفها أطفالها
أي : تدفع أطفالها .
والثاني : أنها الرديئة ، رواه عن الضحاك . قال ابن عباس : إنما قيل للرديئة : مزجاة ، لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممن ينفقها ، قال : وهي من الإزجاء ، والإزجاء عند أبو عبيدة العرب : السوق والدفع ، وأنشد :
ليبك على ملحان ضيف مدفع وأرملة تزجي مع الليل أرملا
أي : تسوقه .
والثالث : الكاسدة ، رواه أيضا عن الضحاك . ابن عباس
والرابع : الرثة ، وهي المتاع الخلق ، رواه عن ابن أبي مليكة . ابن عباس
والخامس : الناقصة ، رواه عن أبو حصين . عكرمة
قوله تعالى : " فأوف لنا الكيل " أي : أتمه لنا ولا تنقصه لرداءة بضاعتنا .
قوله تعالى : " وتصدق علينا " فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : تصدق علينا بما بين سعر الجياد والرديئة ، قاله ، سعيد بن جبير . قال والسدي : كان الذي سألوه من المسامحة يشبه التصدق ، وليس به . ابن الأنباري
والثاني : برد أخينا ، قال ، قال : وذلك أنهم كانوا أنبياء ، والصدقة لا تحل للأنبياء . ابن جريج
[ ص: 279 ] والثالث : وتصدق علينا بالزيادة على حقنا ، قاله ، وذهب إلى أن الصدقة قد كانت تحل للأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم ، حكاه ابن عيينة ، أبو سليمان الدمشقي ، وأبو الحسن الماوردي وأبو يعلى بن الفراء .
قوله تعالى : " إن الله يجزي المتصدقين " أي : بالثواب . قال : لم يقولوا إن الله يجزيك إن تصدقت علينا ، لأنهم لم يعلموا أنه مؤمن . الضحاك
قوله تعالى : " هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه " في سبب قوله لهم هذا ، ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه أخرج إليهم نسخة الكتاب الذي كتبوه على أنفسهم ببيعه من مالك بن ذعر ، وفي آخر الكتاب : " وكتب يهوذا " فلما قرؤوا الكتاب اعترفوا بصحته وقالوا : هذا كتاب كتبناه على أنفسنا عند بيع عبد كان لنا ، فقال يوسف عند ذلك : إنكم تستحقون العقوبة ، وأمر بهم ليقتلوا ، فقالوا : إن كنت فاعلا ، فاذهب بأمتعتنا إلى يعقوب ، ثم أقبل يهوذا على بعض إخوته ، وقال : قد كان أبونا متصل الحزن لفقد واحد من ولده ، فكيف به إذا أخبر بهلكنا أجمعين ؟ فرق يوسف عند ذلك وكشف لهم أمره ، وقال لهم هذا القول ، رواه عن أبو صالح . ابن عباس
الثاني : أنهم لما قالوا : " مسنا وأهلنا الضر أدركته الرحمة ، فقال لهم هذا ، قاله . ابن إسحاق
والثالث : أن يعقوب كتب إليه كتابا : إن رددت ولدي ، وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك ، فبكى ، وقال لهم هذا .
وفي هل قولان :
أحدهما : أنها استفهام لتعظيم القصة لا يراد به نفس الاستفهام . قال : والمعنى : ما أعظم ما ارتكبتم ، وما أسمج ما آثرتم من قطيعة الرحم وتضييع الحق ، وهذا مثل قول العربي : أتدري من عصيت ؟ هل تعرف من عاديت ؟ لا يريد بذلك الاستفهام ، ولكن يريد تفظيع الأمر ، قال الشاعر : ابن [ ص: 280 ] الأنباري
أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي
لم يرد الاستفهام ، إنما أراد أن هذا غير مرجو عندهم . قال : ويجوز أن يكون المعنى : هل علمتم عقبى ما فعلتم بيوسف وأخيه من تسليم الله لهما من المكروه ؟ وهذه الآية تصديق قوله : " لتنبئنهم بأمرهم " .
والثاني : أن " هل " بمعنى " قد " ذكره بعض أهل التفسير .
فإن قيل : فالذي فعلوا بيوسف معلوم ، فما الذي فعلوا بأخيه ، وما سعوا في حبسه ولا أرادوه ؟
فالجواب من وجوه : أحدها : أنهم فرقوا بينه وبين يوسف ، فنغصوا عيشه بذلك . والثاني : أنهم آذوه بعد فقد يوسف . والثالث : أنهم سبوه لما قذف بسرقة الصاع .
وفي قوله : " إذ أنتم جاهلون " أربعة أقوال :
أحدها : إذ أنتم صبيان ، قاله . والثاني : مذنبون ، قاله ابن عباس . والثالث : جاهلون بعقوق الأب ، وقطع الرحم ، وموافقة الهوى . والرابع : جاهلون بما يؤول إليه أمر مقاتل يوسف ، ذكرهما . ابن الأنباري
قوله تعالى : " أإنك لأنت يوسف " قرأ ، ابن كثير ، وأبو جعفر وابن محيصن : " إنك " على الخبر ، وقرأه آخرون بهمزتين محققتين ، وأدخل بعضهم بينهما ألفا .
[ ص: 281 ] واختلف المفسرون ، هل عرفوه ، أم شبهوه ؟ على قولين :
أحدهما : أنهم شبهوه بيوسف ، قاله في رواية . ابن عباس
والثاني : أنهم عرفوه ، قاله . وفي سبب معرفتهم له ثلاثة أقوال : ابن إسحاق
أحدها : أنه تبسم ، فشبهوا ثناياه بثنايا يوسف ، قاله عن الضحاك . ابن عباس
والثاني : أنه كانت له علامة كالشامة في قرنه ، وكان ليعقوب مثلها ، ولإسحاق مثلها ، ولسارة مثلها ، فلما وضع التاج عن رأسه ، عرفوه ، رواه عن عطاء . ابن عباس
والثالث : أنه كشف الحجاب ، فعرفوه قاله . ابن إسحاق
قوله تعالى : " قال أنا يوسف " قال : إنما أظهر الاسم ، ولم يقل : أنا هو ، تعظيما لما وقع به من ظلم إخوته ، فكأنه قال : أنا المظلوم المستحل منه ، المراد قتله ، فكفى ظهور الاسم من هذه المعاني ، ولهذا قال : " ابن الأنباري وهذا أخي " وهم يعرفونه ، وإنما قصد : وهذا المظلوم كظلمي .
قوله تعالى : " قد من الله علينا " فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : بخير الدنيا والآخرة . والثاني : بالجمع بعد الفرقة . والثالث : بالسلامة ثم بالكرامة .
قوله تعالى : " إنه من يتق ويصبر " قرأ في رواية ابن كثير : " من يتقي ويصبر " بياء في الوصل والوقف ، وقرأ الباقون بغير ياء في الحالين . قنبل
وفي معنى الكلام أربعة أقوال :
أحدها : من يتق الزنى ويصبر على البلاء . والثاني : من يتق الزنى ويصبر [ ص: 282 ] على العزبة . والثالث : من يتق الله ويصبر على المصائب ، رويت هذه الأقوال عن . والرابع : يتق معصية الله ويصبر على السجن ، قاله ابن عباس . مجاهد
قوله تعالى : " فإن الله لا يضيع أجر المحسنين " أي : أجر من كان هذا حاله .
قوله تعالى : " لقد آثرك الله علينا " أي : اختارك وفضلك .
وبماذا عنوا أنه فضله فيه ؟ أربعة أقوال :
أحدها : بالملك ، قاله عن الضحاك . والثاني : بالصبر ، قاله ابن عباس عن أبو صالح . والثالث : بالحلم والصفح عنا ، ذكره ابن عباس الدمشقي . والرابع : بالعلم والعقل والحسن وسائر الفضائل التي أعطاه . أبو سليمان
قوله تعالى : " وإن كنا لخاطئين " قال : لمذنبين آثمين في أمرك . قال ابن عباس : ولهذا اختير " خاطئين " على " مخطئين " وإن كان " أخطأ " على ألسن الناس أكثر من " خطئ يخطأ " لأن معنى خطئ يخطأ ، فهو خاطئ : آثم ، ومعنى أخطأ يخطئ ، فهو مخطئ : ترك الصواب ولم يأثم ، قال الشاعر : ابن الأنباري
عبادك يخطأون وأنت رب بكفيك المنايا والحتوم
أراد : يأثمون . قال : ويجوز أن يكون آثر " خاطئين " على " مخطئين " لموافقة رؤوس الآيات ، لأن " خاطئين " أشبه بما قبلها .
وذكر في معنى " إن " قولين : الفراء
أحدهما وقد كنا خاطئين . والثاني : وما كنا إلا خاطئين .
قوله تعالى : " لا تثريب عليكم اليوم " قال عن أبو صالح : لا أعيركم بعد اليوم بهذا أبدا . قال ابن عباس : إنما أشار إلى ذلك اليوم ، لأنه أول أوقات العفو ، وسبيل العافي في مثله أن لا يراجع عقوبة . وقال ابن الأنباري : قد ثرب [ ص: 283 ] فلان على فلان : إذا عدد عليه ذنوبه . وقال ثعلب : لا تعيير عليكم بعد هذا اليوم بما صنعتم ، وأصل التثريب : الإفساد ، يقال : ثرب علينا إذا أفسد ، وفي الحديث : " ابن قتيبة " أي : لا يعيرها بالزنى . قال إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ، ولا يثرب : جعلهم في حل ، وسأل الله المغفرة لهم . وقال ابن عباس : لما عرفهم نفسه ، سألهم عن أبيه ، فقالوا : ذهبت عيناه ، فأعطاهم قميصه ، وقال : " السدي اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا " وهذا القميص كان في قصبة من فضة معلقا في عنق يوسف لما ألقي في الجب ، وكان من الجنة ، وقد سبق ذكره [يوسف :18،25،26،27،28] .
قوله تعالى : " يأت بصيرا " قال : يعود مبصرا . أبو عبيدة
فإن قيل : من أين قطع على الغيب ؟
فالجواب : أن ذلك كان بالوحي إليه ، قاله . مجاهد
قوله تعالى : " وأتوني بأهلكم أجمعين " قال : كان أهله نحوا من سبعين إنسانا . الكلبي