وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين
[ ص: 241 ] قوله تعالى : " وما أبرئ " في القائل لهذا ثلاثة أقوال ، وهي التي تقدمت في الآية قبلها .
فالذين قالوا : هو يوسف ، اختلفوا في سبب قوله لذلك على خمسة أقوال :
أحدها : أنه لما قال : " ليعلم أني لم أخنه بالغيب " غمزه جبريل ، فقال : ولا حين هممت ؟ فقال : " وما أبرئ نفسي " رواه عن عكرمة ، وبه قال الأكثرون . ابن عباس
والثاني : أن يوسف لما قال : " لم أخنه " ذكر أنه قد هم بها فقال : " وما أبرئ نفسي " رواه عن العوفي . ابن عباس
والثالث : أنه لما قال ذلك ، خاف أن يكون قد زكى نفسه ، فقال : " وما أبرئ نفسي " ، قاله . الحسن
والرابع : أنه لما قاله ، قال له الملك الذي معه : اذكر ما هممت به ، فقال : " وما أبرئ نفسي " ، قاله . قتادة
والخامس : أنه لما قاله ، قالت امرأة العزيز : ولا يوم حللت سراويلك ، فقال : " وما أبرئ نفسي " ، قاله . السدي
والذين قالوا : هذا قول امرأة العزيز ، فالمعنى : وما أبرئ نفسي أني كنت راودته .
والذين قالوا : هو العزيز ، فالمعنى : وما أبرئ نفسي من سوء الظن بيوسف ، لأنه قد خطر لي .
قوله تعالى : " لأمارة بالسوء " قرأ ، وأهل ابن عامر الكوفة ويعقوب إلا رويسا : " بالسوء إلا " بتحقيق الهمزتين . وقرأ ، أبو عمرو وابن شنبوذ عن بتحقيق الثانية وحذف الأولى . وروى قنبل نظيف عن بتحقيق الأولى وقلب الثانية ياء . وقرأ قنبل ، أبو جعفر ، وورش ورويس بتحقيق الأولى وتليين الثانية [ ص: 242 ] بين بين ، مثل : " السوء علا " . وروى ابن فليح بتحقيق الثانية وقلب الأولى واوا ، وأدغمها في الواو التي قبلها . فتصير واوا مكسورة مشددة قبل همزة " إلا " .
قوله تعالى : " إلا ما رحم ربي " قال : قال اللغويون هذا استثناء منقطع ، والمعنى : إلا أن رحمة ربي عليها المعتمد . قال ابن الأنباري عن أبو صالح : المعنى : إلا من عصم ربي . وقيل : " ما " بمعنى " من " . قال ابن عباس : ومن قال : هو قول امرأة الماوردي العزيز ، فالمعنى : إلا من رحم ربي في قهره لشهوته ، أو في نزعها عنه . ومن قال : هو قول العزيز ، فالمعنى : إلا من رحم ربي بأن يكفيه سوء الظن ، أو يثبته فلا يعجل . قال : والقول بأن هذا قول ابن الأنباري يوسف ، أصح لوجهين :
أحدهما : لأن العلماء عليه . والثاني : لأن المرأة كانت عابدة وثن ، وما تضمنته " الآية " أليق أن يكون قول يوسف من قول من لا يعرف الله عز وجل . وقال المفسرون : فلما تبين الملك عذر يوسف وعلم أمانته ، قال : " ائتوني به أستخلصه لنفسي " أي : أجعله خالصا لي ، لا يشركني فيه أحد .
فإن قيل : فقد رويتم في بعض ما مضى أن يوسف قال في مجلس الملك : " ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب " ، فكيف قال الملك : " ائتوني به " وهو حاضر عنده ؟!
فالجواب : أن أرباب هذا القول يقولون : أمر الملك بإحضاره ليقلده الأعمال في غير المجلس الذي استحضره فيه لتعبير الرؤيا . قال : لما دخل وهب يوسف على الملك ، وكان الملك يتكلم بسبعين لسانا ، كان كلما كلمه بلسان ، أجابه يوسف بذلك اللسان ، فعجب الملك ، وكان يوسف يومئذ ابن ثلاثين سنة ، فقال : إني أحب أن أسمع رؤياي منك شفاها فذكرها له ، قال : فما ترى أيها الصديق ؟ [ ص: 243 ] قال : أرى أن تزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة ، وتجمع الطعام ، فيأتيك الناس فيمتارون ، وتجمع عندك من الكنوز مالم يجتمع لأحد ، فقال الملك : ومن لي بهذا ؟ فقال يوسف : " اجعلني على خزائن الأرض " . قال : ويريد : بقوله : " ابن عباس مكين أمين " أي : قد مكنتك في ملكي وائتمنتك فيه . وقال : المكين : الوجيه ، والأمين : الحافظ . مقاتل
قوله تعالى : " اجعلني على خزائن الأرض " أي : خزائن أرضك .
وفي المراد بالخزائن قولان :
أحدهما : خزائن الأموال ، قاله ، الضحاك . والزجاج
والثاني : خزائن الطعام فحسب ، قاله . قال ابن السائب : وإنما سأل ذلك ، لأن الأنبياء بعثوا بالعدل ، فعلم أنه لا أحد أقوم بذلك منه . الزجاج
وفي قوله : إني حفيظ عليم ثلاثة أقوال :
أحدها : حفيظ لما وليتني ، عليم بالمجاعة متى تكون ، قاله عن أبو صالح . ابن عباس
والثاني : حفيظ لما استودعتني ، عليم بهذه السنين ، قاله . الحسن
والثالث : حفيظ للحساب ، عليم بالألسن ، قاله ، وذلك أن الناس كانوا يردون على الملك من كل ناحية فيتكلمون بلغات مختلفة . السدي
واختلفوا ، هل ولاه الملك يومئذ ، أم لا ؟ على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه ولاه بعد سنة ، روى عن الضحاك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ابن عباس رحم الله أخي يوسف ، لو لم يقل : اجعلني على خزائن الأرض ، لاستعمله من ساعته ، ولكنه أخر ذلك سنة " . وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 244 ] قال : " مقاتل لو أن يوسف قال إني حفيظ عليم إن شاء الله ، لملك من وقته " . قال : أسلم الملك على يد مجاهد يوسف ، وقال أهل السير : أقام في بيت الملك سنة ، فلما انصرمت ، دعاه الملك ، فتوجه ، ورداه بسيفه ، وأمر له بسرير من ذهب ، وضرب عليه كلة من إستبرق ، فجلس على السرير كالقمر ، ودانت له الملوك ، ولزم الملك بيته ، وفوض أمره إليه ، وعزل قطفير عما كان عليه ، وجعل يوسف مكانه ، ثم إن قطفير هلك في تلك الليالي ، فزوج الملك يوسف بامرأة قطفير ، فلما دخل عليها قال : أليس هذا خيرا مما تريدين ؟ فقالت : أيها الصديق لا تلمني ، فإني كنت امرأة حسناء في ملك ودنيا ، وكان صاحبي لا يأتي النساء ، فغلبتني نفسي ، فلما بنى بها يوسف وجدها عذراء ، فولدت له ابنين ، إفراييم ، وميشا ، واستوسق له ملك مصر .
والقول الثاني : أنه ملكه بعد سنة ونصف ، حكاه عن مقاتل . ابن عباس
والثالث : أنه سلم إليه الأمر من وقته ، قاله ، وهب وابن السائب .
فإن قيل : كيف قال يوسف : " إني حفيظ عليم " ولم يقل : إن شاء الله ؟ فعنه ثلاثة أجوبة :
أحدها : أن ترك الاستثناء أوجب عقوبة بأن أخر تمليكه ، على ما ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والثاني : أنه أضمر الاستثناء ، كما أضمروه في قولهم : " ونمير أهلنا "
والثالث : أنه أراد أن حفظي وعلمي يزيدان على حفظ غيري وعلمه ، فلم يحتج هذا إلى الاستثناء ، لعدم الشك فيه ، ذكر هذه الأقوال . ابن الأنباري
فإن قيل : كيف مدح نفسه بهذا القول ، ومن شأن الأنبياء والصالحين التواضع ؟
[ ص: 245 ] فالجواب : أنه لما خلا مدحه لنفسه من بغي وتكبر ، وكان مراده به الوصول إلى حق يقيمه وعدل يحييه وجور يبطله ، كان ذلك جميلا جائزا ، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم : " آدم على ربه " ، وقال أنا أكرم ولد عليه السلام : والله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت ، أم بنهار . وقال علي بن أبي طالب : لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته . فهذه الأشياء ، خرجت مخرج الشكر لله ، وتعريف المستفيد ما عند المفيد ، ذكر هذا ابن مسعود محمد بن القاسم . قال : في قصة القاضي أبو يعلى يوسف دلالة على أنه يجوز للإنسان أن يصف نفسه بالفضل عند من لا يعرفه ، وأنه ليس من المحظور في قوله : فلا تزكوا أنفسكم [النجم :32] .
قوله تعالى : " وكذلك مكنا ليوسف " في الكلام محذوف ، تقديره : اجعلني على خزائن الأرض ، قال : قد فعلت ، فحذف ذلك ، لأن قوله : " وكذلك مكنا ليوسف " يدل عليه ، والمعنى : ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه في دفع المكروه عنه ، وتخليصه من السجن ، وتقريبه من قلب الملك ، أقدرناه على ما يريد في أرض مصر " يتبوأ منها حيث يشاء " قال : ينزل حيث أراد . وقرأ ابن عباس ، ابن كثير والمفضل : " حيث نشاء " بالنون .
قوله تعالى : " نصيب برحمتنا " أي : نختص بنعمتنا من النبوة والنجاة " من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين " يعني المؤمنين . يقال : إن يوسف باع أهل مصر الطعام بأموالهم ، وحليهم ، ومواشيهم ، وعقارهم ، وعبيدهم ، ثم بأولادهم ، ثم برقابهم ، ثم قال للملك : كيف ترى صنع ربي ؟ فقال الملك : إنما نحن لك تبع ، قال : [ ص: 246 ] فإني أشهد الله وأشهدك أني قد أعتقت أهل مصر ورددت عليهم أملاكهم . وكان يوسف لا يشبع في تلك الأيام ، ويقول : إني أخاف أن أنسى الجائع .