ويلتفت بالخطاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعزيه عن عنادهم وجموحهم واستهزائهم، فهو لم يقصر في الدعوة، ولم يقصر في الحجة، ولم يستحق ما لاقوه به من التطاول، إنما العلة فيهم أنفسهم، فهم يجعلون من هواهم إلها يعبدونه، ولا يرجعون إلى حجة أو برهان. وماذا يملك الرسول لمن يتخذ إلهه هواه :
أرأيت من اتخذ إلهه هواه. أفأنت تكون عليه وكيلا؟ ..
وهو تعبير عجيب يرسم نموذجا عميقا لحالة نفسية بارزة، حين تنفلت النفس من كل المعايير الثابتة والمقاييس المعلومة، والموازين المضبوطة، وتخضع لهواها، وتحكم شهواتها وتتعبد ذاتها، فلا تخضع لميزان، ولا تعترف بحد، ولا تقتنع بمنطق، متى اعترض هواها الطاغي الذي جعلت منه إلها يعبد ويطاع.
والله –سبحانه - يخاطب عبده في رفق ومودة وإيناس في أمر هذا النموذج من الناس: أرأيت؟ ويرسم له هذه الصورة الناطقة المعبرة عن ذلك النموذج الذي لا جدوى من المنطق معه، ولا وزن للحجة، ولا قيمة للحقيقة; ليطيب خاطره من مرارة الإخفاق في هدايته. فهو غير قابل للهدى، وغير صالح لأن يتوكل الرسول بأمره، ولا أن يحفل بشأنه: أفأنت تكون عليه وكيلا؟ ..
ثم يخطو خطوة أخرى في تحقير هؤلاء الذين يتعبدون هواهم، ويحكمون شهواتهم، ويتنكرون للحجة والحقيقة، تعبدا لذواتهم وهواها وشهواتها. يخطو خطوة أخرى فيسويهم بالأنعام التي لا تسمع ولا تعقل، ثم يخطو الخطوة الأخيرة فيدحرجهم من مكانة الأنعام إلى درك أسفل وأحط:
أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون؟ إن هم إلا كالأنعام. بل هم أضل سبيلا .
وفي التعبير تحرز وإنصاف، إذ يذكر " أكثرهم " ولا يعمم، لأن قلة منهم كانت تجنح إلى الهدى، أو تقف عند الحقيقة تتدبرها؛ فأما الكثرة التي تتخذ من الهوى إلها مطاعا، والتي تتجاهل الدلائل وهي تطرق الأسماع والعقول، فهي كالأنعام؛ وما يفرق الإنسان من البهيمة إلا الاستعداد للتدبر والإدراك، والتكيف وفق ما يتدبر ويدرك من الحقائق عن بصيرة وقصد وإرادة واقتناع، ووقوف عند الحجة والاقتناع، بل إن الإنسان حين يتجرد من خصائصه هذه ليكونن أحط من البهيمة، لأن البهيمة تهتدي بما أودعها الله من استعداد، فتؤدي وظائفها أداء كاملا صحيحا، بينما يهمل الإنسان ما أودعه الله من خصائص، ولا ينتفع بها كما تنتفع البهيمة:
[ ص: 2567 ] إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ..
وهكذا يعقب على استهزائهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك التعقيب الذي يخرج المستهزئين من إطار الآدمية في عنف واحتقار ومهانة.
وهكذا ينتهي الشوط الثاني في السورة.