وبعد الانتهاء من أدب الاستئذان على البيوت - وهو إجراء وقائي في طريق تطهير المشاعر واتقاء أسباب الفتنة العابرة - يأخذ على الفتنة الطريق كي لا تنطلق من عقالها، بدافع النظر لمواضع الفتنة المثيرة، وبدافع الحركة المعبرة، الداعية إلى الغواية:
قل للمؤمنين: يغضوا من أبصارهم، ويحفظوا فروجهم، ذلك أزكى لهم. إن الله خبير بما يصنعون. [ ص: 2511 ] وقل للمؤمنات: يغضضن من أبصارهن، ويحفظن فروجهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن، أو آبائهن، أو آباء بعولتهن، أو أبنائهن، أو أبناء بعولتهن، أو إخوانهن، أو بني إخوانهن، أو بني أخواتهن، أو نسائهن، أو ما ملكت أيمانهن، أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال، أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء. ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن. وتوبوا إلى الله جميعا - أيه المؤمنون - لعلكم تفلحون ..
إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف، لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة، ولا تستثار فيه دفعات اللحم والدم في كل حين، فعمليات الاستثارة المستمرة تنتهي إلى سعار شهواني لا ينطفئ ولا يرتوي، والنظرة الخائنة، والحركة المثيرة، والزينة المتبرجة، والجسم العاري، كلها لا تصنع شيئا إلا أن تهيج ذلك السعار الحيواني المجنون! وإلا أن يفلت زمام الأعصاب والإرادة. فأما الإفضاء الفوضوي الذي لا يتقيد بقيد وإما الأمراض العصبية والعقد النفسية الناشئة من الكبح بعد الإثارة! وهي تكاد أن تكون عملية تعذيب!!!
وإحدى وسائل الإسلام إلى إنشاء مجتمع نظيف هي الحيلولة دون هذه الاستثارة، وإبقاء الدافع الفطري العميق بين الجنسين، سليما، وبقوته الطبيعية، دون استثارة مصطنعة، وتصريفه في موضعه المأمون النظيف.
ولقد شاع في وقت من الأوقات أن النظرة المباحة، والحديث الطليق، والاختلاط الميسور، والدعابة المرحة بين الجنسين، والاطلاع على مواضع الفتنة المخبوءة، شاع أن كل هذا تنفيس وترويح، وإطلاق للرغبات الحبيسة، ووقاية من الكبت، ومن العقد النفسية، وتخفيف من حدة الضغط الجنسي، وما وراءه من اندفاع غير مأمون ... إلخ.
شاع هذا على إثر انتشار بعض النظريات المادية القائمة على تجريد الإنسان من خصائصه التي تفرقه من الحيوان، والرجوع به إلى القاعدة الحيوانية الغارقة في الطين! - وبخاصة نظرية فرويد - ولكن هذا لم يكن سوى فروض نظرية، رأيت بعيني في أشد البلاد إباحية وتفلتا من جميع القيود الاجتماعية والأخلاقية والدينية والإنسانية، ما يكذبها وينقضها من الأساس.
نعم، شاهدت في البلاد التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي، والاختلاط الجنسي، بكل صوره وأشكاله، أن هذا كله لم ينته بتهذيب الدوافع الجنسية وترويضها. إنما انتهى إلى سعار مجنون لا يرتوي ولا يهدأ إلا ريثما يعود إلى الظمإ والاندفاع! وشاهدت الأمراض النفسية والعقد التي كان مفهوما أنها لا تنشأ إلا من الحرمان، وإلا من التلهف على الجنس الآخر المحجوب، شاهدتها بوفرة ومعها الشذوذ الجنسي بكل أنواعه، ثمرة مباشرة للاختلاط الكامل الذي لا يقيده قيد ولا يقف عند حد; وللصداقات بين الجنسين تلك التي يباح معها كل شيء! وللأجسام العارية في الطريق، وللحركات المثيرة والنظرات الجاهرة، واللفتات الموقظة.وليس هنا مجال التفصيل وعرض الحوادث والشواهد، مما يدل بوضوح على ضرورة إعادة النظر في تلك النظريات التي كذبها الواقع المشهود.
إن الميل الفطري بين الرجل والمرأة ميل عميق في التكوين الحيوي; لأن الله قد ناط به امتداد الحياة على هذه الأرض; وتحقيق الخلافة لهذا الإنسان فيها، فهو ميل دائم يسكن فترة ثم يعود، وإثارته في كل حين تزيد من عرامته; وتدفع به إلى الإفضاء المادي للحصول على الراحة، فإذا لم يتم هذا تعبت الأعصاب المستثارة.
[ ص: 2512 ] وكان هذا بمثابة عملية تعذيب مستمرة! والنظرة تثير، والحركة تثير، والضحكة تثير، والدعابة تثير، والنبرة المعبرة عن هذا الميل تثير، والطريق المأمون هو تقليل هذه المثيرات بحيث يبقى هذا الميل في حدوده الطبيعية، ثم يلبي تلبية طبيعية، وهذا هو المنهج الذي يختاره الإسلام، مع تهذيب الطبع، وشغل الطاقة البشرية بهموم أخرى في الحياة، غير تلبية دافع اللحم والدم، فلا تكون هذه التلبية هي المنفذ الوحيد!
وفي الآيتين المعروضتين هنا نماذج من تقليل فرص الاستثارة والغواية والفتنة من الجانبين:
قل للمؤمنين: يغضوا من أبصارهم، ويحفظوا فروجهم. ذلك أزكى لهم. إن الله خبير بما يصنعون ..
وغض البصر من جانب الرجال أدب نفسي، ومحاولة للاستعلاء على الرغبة في الاطلاع على المحاسن والمفاتن في الوجوه والأجسام، كما أن فيه إغلاقا للنافذة الأولى من نوافذ الفتنة والغواية، ومحاولة عملية للحيلولة دون وصول السهم المسموم!
وحفظ الفرج هو الثمرة الطبيعية لغض البصر، أو هو الخطوة التالية لتحكيم الإرادة، ويقظة الرقابة، والاستعلاء على الرغبة في مراحلها الأولى، ومن ثم يجمع بينهما في آية واحدة; بوصفهما سببا ونتيجة; أو باعتبارهما خطوتين متواليتين في عالم الضمير وعالم الواقع، كلتاهما قريب من قريب.
ذلك أزكى لهم .. فهو أطهر لمشاعرهم; وأضمن لعدم تلوثها بالانفعالات الشهوية في غير موضعها المشروع النظيف، وعدم ارتكاسها إلى الدرك الحيواني الهابط.وهو أطهر للجماعة وأصون لحرماتها وأعراضها، وجوها الذي تتنفس فيه.
والله هو الذي يأخذهم بهذه الوقاية; وهو العليم بتركيبهم النفسي وتكوينهم الفطري، الخبير بحركات نفوسهم وحركات جوارحهم: إن الله خبير بما يصنعون ..
وقل للمؤمنات: يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ..
فلا يرسلن بنظراتهن الجائعة المتلصصة، أو الهاتفة المثيرة، تستثير كوامن الفتنة في صدور الرجال، ولا يبحن فروجهن إلا في حلال طيب، يلبي داعي الفطرة في جو نظيف، لا يخجل الأطفال الذين يجيئون عن طريقه عن مواجهة المجتمع والحياة!
ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ..
والزينة حلال للمرأة، تلبية لفطرتها، فكل أنثى مولعة بأن تكون جميلة، وأن تبدو جميلة، والزينة تختلف من عصر إلى عصر; ولكن أساسها في الفطرة واحد، هو الرغبة في تحصيل الجمال أو استكماله، وتجليته للرجال.
والإسلام لا يقاوم هذه الرغبة الفطرية; ولكنه ينظمها ويضبطها، ويجعلها تتبلور في الاتجاه بها إلى رجل واحد - هو شريك الحياة - يطلع منها على ما لا يطلع أحد سواه، ويشترك معه في الاطلاع على بعضها، المحارم والمذكورون في الآية بعد، ممن لا يثير شهواتهم ذلك الاطلاع.
فأما ما ظهر من الزينة في الوجه واليدين، فيجوز كشفه؛ لأن كشف الوجه واليدين مباح لقوله - صلى الله عليه وسلم - : لأسماء بنت أبي بكر "يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض، لم يصلح أن يرى منها إلا هذا – [ ص: 2513 ] وأشار إلى وجهه وكفيه" وليضربن بخمرهن على جيوبهن ..
والجيب فتحة الصدر في الثوب. والخمار غطاء الرأس والنحر والصدر، ليداري مفاتنهن، فلا يعرضها للعيون الجائعة; ولا حتى لنظرة الفجاءة، التي يتقي المتقون أن يطيلوها أو يعاودوها، ولكنها قد تترك كمينا في أطوائهم بعد وقوعها على تلك المفاتن لو تركت مكشوفة!.
إن الله لا يريد أن يعرض القلوب للتجربة والابتلاء في هذا النوع من البلاء!
والمؤمنات اللواتي تلقين هذا النهي، وقلوبهن مشرقة بنور الله، لم يتلكأن في الطاعة، على الرغم من رغبتهن الفطرية في الظهور بالزينة والجمال، وقد كانت المرأة في الجاهلية - كما هي اليوم في الجاهلية الحديثة! - تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء، وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها، وأقرطة أذنيها، فلما أمر الله النساء أن يضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، كن كما قالت - رضي الله عنها - : "يرحم الله نساء المهاجرات الأول؛ لما أنزل الله: "وليضربن بخمرهن على جيوبهن" شققن مروطهن فاختمرن بها". وعن عائشة قالت: صفية، بنت شيبة بينما نحن عند ، قالت: فذكرن نساء عائشة قريش وفضلهن؛ فقالت - رضي الله عنها - إن لنساء عائشة قريش لفضلا، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار ، أشد تصديقا لكتاب الله، ولا إيمانا بالتنزيل، لما نزلت في سورة النور: وليضربن بخمرهن على جيوبهن انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها; ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته، وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل، فاعتجرت به تصديقا وإيمانا بما أنزل الله من كتابه؛ فأصبحن وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتجرات كأن على رءوسهن الغربان".
لقد رفع الإسلام ذوق المجتمع الإسلامي، وطهر إحساسه بالجمال; فلم يعد الطابع الحيواني للجمال هو المستحب، بل الطابع الإنساني المهذب. وجمال الكشف الجسدي جمال حيواني يهفو إليه الإنسان بحس الحيوان; مهما يكن من التناسق والاكتمال، فأما جمال الحشمة فهو الجمال النظيف، الذي يرفع الذوق الجمالي، ويجعله لائقا بالإنسان، ويحيطه بالنظافة والطهارة في الحس والخيال.
وكذلك يصنع الإسلام اليوم في صفوف المؤمنات على الرغم من هبوط الذوق العام، وغلبة الطابع الحيواني عليه، والجنوح به إلى التكشف والعري والتنزي كما تتنزى البهيمة! فإذا هن يحجبن مفاتن أجسامهن طائعات في مجتمع يتكشف ويتبرج، وتهتف الأنثى فيه للذكور حيثما كانت هتاف الحيوان للحيوان!
هذا التحشم وسيلة من الوسائل الوقائية للفرد والجماعة، ومن ثم يبيح القرآن تركه عند ما يأمن الفتنة، فيستثني المحارم الذين لا تتوجه ميولهم عادة ولا تثور شهواتهم وهم:
الآباء والأبناء، وآباء الأزواج وأبناؤهم، والإخوة وأبناء الإخوة، وأبناء الأخوات، كما يستثني النساء المؤمنات: أو نسائهن فأما غير المسلمات فلا؛ لأنهن قد يصفن لأزواجهن وإخوتهن، وأبناء ملتهن مفاتن نساء المسلمين وعوراتهن لو اطلعن عليها، وفي الصحيحين: أما المسلمات فهن أمينات، يمنعهن دينهن أن يصفن لرجالهن جسم امرأة مسلمة وزينتها، ويستثني [ ص: 2514 ] كذلك "لا تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه يراها". ما ملكت أيمانهن قيل من الإناث فقط، وقيل: ومن الذكور كذلك؛ لأن الرقيق لا تمتد شهوته إلى سيدته، والأول أولى، لأن الرقيق إنسان تهيج فيه شهوة الإنسان، مهما يكن له من وضع خاص; في فترة من الزمان، ويستثني التابعين غير أولي الإربة من الرجال .. وهم الذين لا يشتهون النساء لسبب من الأسباب كالجب والعنة والبلاهة والجنون، وسائر ما يمنع الرجل أن تشتهي نفسه المرأة؛ لأنه لا فتنة هنا ولا إغراء.ويستثني الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء .. وهم الأطفال الذين لا يثير جسم المرأة فيهم الشعور بالجنس، فإذا ميزوا وثار فيهم هذا الشعور - ولو كانوا دون البلوغ - فهم غير داخلين في هذا الاستثناء.
وهؤلاء كلهم - عدا الأزواج - ليس عليهم ولا على المرأة جناح أن يروا منها، إلا ما تحت السرة إلى تحت الركبة، لانتفاء الفتنة التي من أجلها كان الستر والغطاء، فأما الزوج فله رؤية كل جسدها بلا استثناء.
ولما كانت الوقاية هي المقصودة بهذا الإجراء، فقد مضت الآية تنهى المؤمنات عن الحركات التي تعلن عن الزينة المستورة، وتهيج الشهوات الكامنة، وتوقظ المشاعر النائمة، ولو لم يكشفن فعلا عن الزينة:
ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ..
وإنها لمعرفة عميقة بتركيب النفس البشرية وانفعالاتها واستجاباتها، فإن الخيال ليكون أحيانا أقوى في إثارة الشهوات من العيان، وكثيرون تثير شهواتهم رؤية حذاء المرأة أو ثوبها، أو حليها، أكثر مما تثيرها رؤية جسد المرأة ذاته؛ كما أن كثيرين يثيرهم طيف المرأة يخطر في خيالهم، أكثر مما يثيرهم شخص المرأة بين أيديهم - وهي حالات معروفة عند علماء الأمراض النفسية اليوم - وسماع وسوسة الحلي أو شمام شذى العطر من بعيد، قد يثير حواس رجال كثيرين، ويهيج أعصابهم، ويفتنهم فتنة جارفة لا يملكون لها ردا.
والقرآن يأخذ الطريق على هذا كله، لأن منزله هو الذي خلق، وهو الذي يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير.
وفي النهاية يرد القلوب كلها إلى الله ويفتح لها باب التوبة مما ألمت به قبل نزول هذا القرآن:
وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون .
بذلك يثير الحساسية برقابة الله، وعطفه ورعايته، وعونه للبشر في ضعفهم أمام ذلك الميل الفطري العميق، الذي لا يضبطه مثل الشعور بالله، وبتقواه..