يا أيها الناس اتقوا ربكم، إن زلزلة الساعة شيء عظيم. يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد ..
مطلع عنيف رعيب، ومشهد ترتجف لهوله القلوب. يبدأ بالنداء الشامل للناس جميعا: يا أيها الناس يدعوهم إلى الخوف من الله: اتقوا ربكم ويخوفهم ذلك اليوم العصيب: إن زلزلة الساعة شيء عظيم .
وهكذا يبدأ بالتهويل المجمل، وبالتجهيل الذي يلقي ظل الهول يقصر عن تعريفه التعبير، فيقال: إنه زلزلة. وإن الزلزلة شيء عظيم ، من غير تحديد ولا تعريف.
ثم يأخذ في التفصيل. فإذا هو أشد رهبة من التهويل.. إذا هو مشهد حافل بكل مرضعة ذاهلة عما أرضعت تنظر ولا ترى، وتتحرك ولا تعي. وبكل حامل تسقط حملها للهول المروع ينتابها.. وبالناس سكارى وما هم بسكارى، يتبدى السكر في نظراتهم الذاهلة، وفي خطواتهم المترنحة.. مشهد مزدحم بذلك الحشد المتماوج، تكاد العين تبصره لحظة التلاوة، بينما الخيال يتملاه. والهول الشاخص يذهله، فلا يكاد يبلغ أقصاه.. وهو هول حي لا يقاس بالحجم والضخامة، ولكن يقاس بوقعه في النفوس الآدمية: في المرضعات الذاهلات عما أرضعن - وما تذهل المرضعة عن طفلها وفي فمه ثديها إلا للهول الذي لا يدع بقية من وعي - والحوامل الملقيات حملهن، وبالناس سكارى وما هم بسكارى: ولكن عذاب الله شديد ..
إنه مطلع عنيف مرهوب تتزلزل له القلوب..
في ظل هذا الهول المروع يذكر أن هنالك من يتطاول فيجادل في الله، ولا يستشعر تقواه:
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم، ويتبع كل شيطان مريد، كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير ..
والجدال في الله، سواء في وجوده تعالى، أو في وحدانيته، أو في قدرته، أو في علمه، أو في صفة ما من صفاته.. الجدال في شيء من هذا في ظل ذلك الهول الذي ينتظر الناس جميعا، والذي لا نجاة منه إلا بتقوى الله وبرضاه.. ذلك الجدال يبدو عجيبا من ذي عقل وقلب، لا يتقي شر ذلك الهول المزلزل المجتاح.
ويا ليته كان جدالا عن علم ومعرفة ويقين. ولكنه جدال "بغير علم" جدال التطاول المجرد من الدليل. جدال الضلال الناشئ من اتباع الشيطان. فهذا الصنف من الناس يجادل في الله بالهوى: ويتبع كل شيطان مريد عات مخالف للحق متبجح كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير
.. فهو حتم مقدور أن يضل تابعه عن الهدى والصواب، وأن يقوده إلى عذاب السعير.. ويتهكم التعبير فيسمي قيادته أتباعه إلى عذاب السعير هداية! ويهديه إلى عذاب السعير .. فيالها من هداية هي الضلال المهلك المبيد!
أم إن الناس في ريب من البعث؟ وفي شك من زلزلة الساعة؟ إن كانوا يشكون في إعادة الحياة فليتدبروا [ ص: 2409 ] كيف تنشأ الحياة، ولينظروا في أنفسهم، وفي الأرض من حولهم، حيث تنطق لهم الدلائل بأن الأمر مألوف ميسور; ولكنهم هم الذين يمرون على الدلائل في أنفسهم وفي الأرض غافلين:
يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة - لنبين لكم - ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا. وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ..
إن البعث إعادة لحياة كانت، فهو في تقدير البشر - أيسر من إنشاء الحياة. وإن لم يكن - بالقياس إلى قدرة الله - شيء أيسر ولا شيء أصعب. فالبدء كالإعادة أثر لتوجه الإرادة: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له: كن فيكون .
ولكن القرآن يأخذ البشر بمقاييسهم، ومنطقهم، وإدراكهم، فيوجه قلوبهم إلى تدبر المشهود المعهود لهم، وهو يقع لهم كل لحظة، ويمر بهم في كل برهة; وهو من الخوارق لو تدبروه بالعين البصيرة، والقلب المفتوح، والحس المدرك. ولكنهم يمرون به أو يمر بهم دون وعي ولا انتباه.
فما هؤلاء الناس؟ ما هم؟ من أين جاءوا؟ وكيف كانوا؟ وفي أي الأطوار مروا؟
فإنا خلقناكم من تراب .. والإنسان ابن هذه الأرض. من ترابها نشأ، ومن ترابها تكون، ومن ترابها عاش. وما في جسمه من عنصر إلا له نظيره في عناصر أمه الأرض. اللهم إلا ذلك السر اللطيف الذي أودعه الله إياه ونفخه فيه من روحه; وبه افترق عن عناصر ذلك التراب. ولكنه أصلا من التراب عنصرا وهيكلا وغذاء. وكل عناصره المحسوسة من ذلك التراب.
ولكن أين التراب وأين الإنسان؟ أين تلك الذرات الأولية الساذجة من ذلك الخلق السوي المركب، الفاعل المستجيب، المؤثر المتأثر، الذي يضع قدميه على الأرض ويرف بقلبه إلى السماء; ويخلق بفكره فيما وراء المادة كلها ومنها ذلك التراب..
إنها نقلة ضخمة بعيدة الأغوار والآماد، تشهد بالقدرة التي لا يعجزها البعث، وهي أنشأت ذلك الخلق من تراب!
ثم من نطفة. ثم من علقة. ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة - لنبين لكم - ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى. ثم نخرجكم طفلا ... .
والمسافة بين عناصر التراب الأولية الساذجة والنطفة المؤلفة من الخلايا المنوية الحية، مسافة هائلة، تضمر في طياتها السر الأعظم. سر الحياة. السر الذي لم يعرف البشر عنه شيئا يذكر، بعد ملايين الملايين من السنين، وبعد ما لا يحصى من تحول العناصر الساذجة إلى خلايا حية في كل لحظة من لحظات تلك الملايين. والذي لا سبيل إلى أكثر من ملاحظته وتسجيله، دون التطلع إلى خلقه وإنشائه، مهما طمح الإنسان، وتعلق بأهداب المحال!
ثم يبقى بعد ذلك سر تحول تلك النطفة إلى علقة، وتحول العلقة إلى مضغة، وتحول المضغة إلى إنسان!
فما تلك النطفة؟ إنها ماء الرجل. والنقطة الواحدة من هذا الماء تحمل ألوف الحيوانات المنوية. وحيوان واحد منها هو الذي يلقح البويضة من ماء المرأة في الرحم، ويتحد بها فتعلق في جدار الرحم.
[ ص: 2410 ] وفي هذه البويضة الملقحة بالحيوان المنوي.. في هذه النقطة الصغيرة العالقة بجدار الرحم - بقدرة القادر وبالقوة المودعة بها من لدنه - في هذه النقطة تكمن جميع خصائص الإنسان المقبل: صفاته الجسدية وسماته من طول وقصر، وضخامة وضآلة، وقبح ووسامة، وآفة وصحة.. كما تكمن صفاته العصبية والعقلية والنفسية: من ميول ونزعات، وطباع واتجاهات، وانحرافات واستعدادات..
فمن يتصور أو يصدق أن ذلك كله كامن في تلك النقطة العالقة؟ وأن هذه النقطة الصغيرة الضئيلة هي هذا الإنسان المعقد المركب، الذي يختلف كل فرد من جنسه عن الآخر، فلا يتماثل اثنان في هذه الأرض في جميع الأزمان؟!
و من العلقة إلى المضغة، وهي قطعة من دم غليظ لا تحمل سمة ولا شكلا. ثم تخلق فتتخذ شكلها بتحولها إلى هيكل عظمي يكسى باللحم; أو يلفظها الرحم قبل ذلك إن لم يكن مقدرا لها التمام.
لنبين لكم .. فهنا محطة بين المضغة والطفل، يقف السياق عندها بهذه الجملة المعترضة: لنبين لكم . لنبين لكم دلائل القدرة بمناسبة تبين الملامح في المضغة. وذلك على طريقة التناسق الفني في القرآن.
ثم يمضي السياق مع أطوار الجنين: ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى فما شاء الله أن يتم تمامه أقره في الأرحام حتى يحين أجل الوضع. ثم نخرجكم طفلا .. ويا للمسافة الهائلة بين الطور الأول والطور الأخير!
إنها في الزمان - تعادل في العادة - تسعة أشهر. ولكنها أبعد من ذلك جدا في اختلاف طبيعة النطفة وطبيعة الطفل. النطفة التي لا ترى بالعين المجردة وهذا المخلوق البشري المعقد المركب، ذو الأعضاء والجوارح، والسمات والملامح، والصفات والاستعدادات، والميول والنزعات..
إلا إنها المسافة التي لا يعبرها الفكر الواعي إلا وقد وقف خاشعا أمام آثار القدرة القادرة مرات ومرات..
ثم يمضي السياق مع أطوار ذلك الطفل بعد أن يرى النور، ويفارق المكمن الذي تمت فيه تلك الخوارق الضخام، في خفية عن الأنظار!
ثم لتبلغوا أشدكم .. فتستوفوا نموكم العضلي، ونموكم العقلي، ونموكم النفسي.. وكم بين الطفل الوليد والإنسان الشديد من مسافات في المميزات أبعد من مسافات الزمان! ولكنها تتم بيد القدرة المبدعة التي أودعت الطفل الوليد كل خصائص الإنسان الرشيد، وكل الاستعدادات الكامنة التي تتبدى فيه وتتكشف في أوانها، كما أودعت النقطة العالقة بالرحم كل خصائص الطفل، وهي ماء مهين!
ومنكم من يتوفى، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا ..
فأما من يتوفى فهو صائر إلى نهاية كل حي. وأما من يرد إلى أرذل العمر فهو صفحة مفتوحة للتدبر ما تزال. فبعد العلم، وبعد الرشد، وبعد الوعي، وبعد الاكتمال.. إذا هو يرتد طفلا. طفلا في عواطفه وانفعالاته. طفلا في وعيه ومعلوماته. طفلا في تقديره وتدبيره. طفلا أقل شيء يرضيه وأقل شيء يبكيه. طفلا في حافظته فلا تمسك شيئا، وفي ذاكرته فلا تستحضر شيئا. طفلا في أخذه الأحداث والتجارب فرادى لا يربط بينها رابط ولا تؤدي في حسه ووعيه إلى نتيجة، لأنه ينسى أولها قبل أن يأتي على آخرها: لكيلا يعلم من بعد علم شيئا ولكي يفلت من عقله ووعيه ذلك العلم الذي ربما تخايل به وتطاول، وجادل في الله وصفاته بالباطل!
ثم تستطرد الآية إلى عرض مشاهد الخلق والإحياء في الأرض والنبات، بعد عرض مشاهد الخلق والإحياء في الإنسان.
[ ص: 2411 ] وترى الأرض هامدة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج .
والهمود درجة بين الحياة والموت. وهكذا تكون الأرض قبل الماء، وهو العنصر الأصيل في الحياة والأحياء. فإذا نزل عليها الماء اهتزت وربت وهي حركة عجيبة سجلها القرآن قبل أن تسجلها الملاحظة العلمية بمئات الأعوام، فالتربة الجافة حين ينزل عليها الماء تتحرك حركة اهتزاز وهي تتشرب الماء وتنتفخ فتربو ثم تتفتح بالحياة عن النبات من كل زوج بهيج . وهل أبهج من الحياة وهي تتفتح بعد الكمون، وتنتفض بعد الهمود؟
وهكذا يتحدث القرآن عن القرابة بين أبناء الحياة جميعا، فيسلكهم في آية واحدة من آياته. وإنها للفتة عجيبة إلى هذه القرابة الوثيقة. وإنها لدليل على وحدة عنصر الحياة، وعلى وحدة الإرادة الدافعة لها هنا وهناك.
في الأرض والنبات والحيوان والإنسان.
ذلك بأن الله هو الحق، وأنه يحيي الموتى، وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور ..
ذلك.. أي إنشاء الإنسان من التراب وتطور الجنين في مراحل تكونه، وتطور الطفل في مراحل حياته، وانبعاث الحياة من الأرض بعد الهمود. ذلك متعلق بأن الله هو الحق. فهو من السنن المطردة التي تنشأ من أن خالقها هو الحق الذي لا تختل سننه ولا تتخلف. وأن اتجاه الحياة هذا الاتجاه في هذه الأطوار ليدل على الإرادة التي تدفعها وتنسق خطاها وترتب مراحلها. فهناك ارتباط وثيق بين أن الله هو الحق، وبين هذا الاطراد والثبات والاتجاه الذي لا يحيد. وأنه يحيي الموتى فإحياء الموتى هو إعادة للحياة. والذي أنشأ الحياة الأولى هو الذي ينشئها للمرة الآخرة وأن الله يبعث من في القبور ليلاقوا ما يستحقونه من جزاء. فهذا البعث تقتضيه حكمة الخلق والتدبير.
وإن هذه الأطوار التي يمر بها الجنين، ثم يمر بها الطفل بعد أن يرى النور لتشير إلى أن الإرادة المدبرة لهذه الأطوار ستدفع بالإنسان إلى حيث يبلغ كماله الممكن في دار الكمال. إذ إن الإنسان لا يبلغ كماله في حياة الأرض، فهو يقف ثم يتراجع لكيلا يعلم من بعد علم شيئا فلا بد من دار أخرى يتم فيها تمام الإنسان.
فدلالة هذه الأطوار على البعث دلالة مزدوجة.. فهي تدل على البعث من ناحية أن القادر على الإنشاء قادر على الإعادة، وهي تدل على البعث لأن الإرادة المدبرة تكمل تطوير الإنسان في الدار الآخرة.. وهكذا تلتقي نواميس الخلق والإعادة، ونواميس الحياة والبعث، ونواميس الحساب والجزاء وتشهد كلها بوجود الخالق المدبر القادر الذي ليس في وجوده جدال..
ومع هذه الدلائل المتضافرة فهناك من يجادل في الله:
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله. له في الدنيا خزي، ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق. ذلك بما قدمت يداك، وأن الله ليس بظلام للعبيد ..
والجدال في الله بعد تلك الدلائل يبدو غريبا مستنكرا. فكيف إذا كان جدالا بغير علم. لا يستند إلى دليل، ولا يقوم على معرفة، ولا يستمد من كتاب ينير القلب والعقل، ويوضح الحق، ويهدي إلى اليقين.
والتعبير يرسم صورة لهذا الصنف من الناس. صورة فيها الكبر المتعجرف: ثاني عطفه مائلا مزورا بجنبه. فهو لا يستند إلى حق فيعوض عن هذا بالعجرفة والكبر. ليضل عن سبيل الله فلا يكتفي بأن يضل، إنما يحمل غيره على الضلال.
[ ص: 2412 ] هذا الكبر الضال المضل لا بد أن يقمع، ولا بد أن يحطم: له في الدنيا خزي فالخزي هو المقابل للكبر. والله لا يدع المتكبرين المتعجرفين الضالين المضلين حتى يحطم تلك الكبرياء الزائفة وينكسها ولو بعد حين. إنما يمهلهم أحيانا ليكون الخزي أعظم، والتحقير أوقع. أما عذاب الآخرة فهو أشد وأوجع: ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق .
وفي لحظة ينقلب ذلك الوعيد المنظور إلى واقع مشهود، بلفتة صغيرة في السياق، من الحكاية إلى الخطاب:
ذلك بما قدمت يداك، وأن الله ليس بظلام للعبيد ..
وكأنما هو اللحظة يلقى التقريع والتبكيت، مع العذاب والحريق.