ويختم هذا الدرس بإعلان الربوبية المطلقة لله، والتوجيه إلى عبادته والصبر على تكاليفها. ونفي الشبيه والنظير:
وما نتنزل إلا بأمر ربك، له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك، وما كان ربك نسيا. رب السماوات والأرض وما بينهما، فاعبده واصطبر لعبادته. هل تعلم له سميا؟ ..
وتتضافر الروايات على أن قوله: وما نتنزل إلا بأمر ربك.. مما أمر جبريل عليه السلام أن يقوله للرسول - صلى الله عليه وسلم - ردا على استبطائه للوحي فترة لم يأته فيها جبريل. فاستوحشت نفسه، واشتاقت للاتصال الحبيب. فكلف جبريل أن يقول له: وما نتنزل إلا بأمر ربك فهو الذي يملك كل شيء من أمرنا:
له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وهو لا ينسى شيئا، إنما ينزل الوحي عندما تقتضي حكمته أن ينزل وما كان ربك نسيا فناسب بعد ذلك أن يذكر الاصطبار على عبادة الله مع إعلان الربوبية له دون سواه:
رب السماوات والأرض وما بينهما .. فلا ربوبية لغيره، ولا شرك معه في هذا الكون الكبير.
فاعبده واصطبر لعبادته .. اعبده واصطبر على تكاليف العبادة. وهي تكاليف الارتقاء إلى أفق المثول بين يدي المعبود، والثبات في هذا المرتقى العالي. اعبده واحشد نفسك وعبئ طاقتك للقاء والتلقي في ذلك الأفق العلوي.. إنها مشقة. مشقة التجمع والاحتشاد والتجرد من كل شاغل، ومن كل هاتف ومن كل التفات.. وإنها مع المشقة للذة لا يعرفها إلا من ذاق. ولكنها لا تنال إلا بتلك المشقة، وإلا بالتجرد لها، والاستغراق فيها، والتحفز لها بكل جارحة وخالجة. فهي لا تفشي سرها ولا تمنح عطرها إلا لمن يتجرد لها، ويفتح منافذ حسه وقلبه جميعا.
فاعبده واصطبر لعبادته .. والعبادة في الإسلام ليست مجرد الشعائر. إنما هي كل نشاط: كل حركة. كل خالجة. كل نية. كل اتجاه. وإنها لمشقة أن يتجه الإنسان في هذا كله إلى الله وحده دون سواه. مشقة تحتاج إلى الاصطبار. ليتوجه القلب في كل نشاط من نشاط الأرض إلى السماء. خالصا من أوشاب الأرض وأوهاق الضرورات، وشهوات النفس، ومواضعات الحياة.
إنه منهج حياة كامل، يعيش الإنسان وفقه، وهو يستشعر في كل صغيرة وكبيرة طوال الحياة أنه يتعبد الله فيرتفع في نشاطه كله إلى أفق العبادة الطاهر الوضيء. وإنه لمنهج يحتاج إلى الصبر والجهد والمعاناة.
فاعبده واصطبر لعبادته.. فهو الواحد الذي يعبد في هذا الوجود والذي تتجه إليه الفطر والقلوب..
هل تعلم له سميا؟ . هل تعرف له نظيرا؟ تعالى الله عن السمي والنظير..