وكان بعض فلما قرر في الآية السابقة أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، أتبعه بالنهي عن قتل الأولاد خشية الإملاق في المكان المناسب من السياق. فما دام الرزق بيد الله، فلا علاقة إذن بين الإملاق وكثرة النسل أو نوع النسل; إنما الأمر كله إلى الله. ومتى انتفت العلاقة بين الفقر والنسل من تفكير الناس، وصححت عقيدتهم من هذه الناحية فقد انتفى الدافع إلى تلك الفعلة الوحشية المنافية لفطرة الأحياء وسنة الحياة: أهل الجاهلية يقتلون البنات خشية الفقر والإملاق;
ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم، إن قتلهم كان خطئا كبيرا ..
إن انحراف العقيدة وفسادها ينشئ آثاره في حياة الجماعة الواقعية، ولا يقتصر على فساد الاعتقاد والطقوس التعبدية. وتصحيح العقيدة ينشئ آثاره في صحة المشاعر وسلامتها، وفي سلامة الحياة الاجتماعية واستقامتها. وهذا المثل من وأد البنات مثل بارز على آثار العقيدة في واقع الجماعة الإنسانية. وشاهد على أن الحياة لا يمكن إلا أن تتأثر بالعقيدة، وأن العقيدة لا يمكن أن تعيش في معزل عن الحياة.
ثم نقف هنا لحظة أمام مثل من دقائق التعبير القرآني العجيبة.
ففي هذا الموضع قدم رزق الأبناء على رزق الآباء: نحن نرزقهم وإياكم وفي سورة الأنعام قدم رزق الآباء على رزق الأبناء: نحن نرزقكم وإياهم . وذلك بسبب اختلاف آخر في مدلول النصين. فهذا النص:
ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم : والنص الآخر ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم .
هنا قتل الأولاد خشية وقوع الفقر بسببهم فقدم رزق الأولاد. وفي الأنعام قتلهم بسبب فقر الآباء فعلا. فقدم رزق الآباء. فكان التقديم والتأخير وفق مقتضى الدلالات التعبيرية هنا وهناك.
ومن النهي عن قتل الأولاد إلى النهي عن الزنا:
ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ..
وبين قتل الأولاد والزنا صلة ومناسبة - وقد توسط النهي عن الزنا بين النهي عن قتل الأولاد والنهي عن قتل النفس - لذات الصلة وذات المناسبة.
[ ص: 2224 ] إن في الزنا قتلا من نواحي شتى. إنه قتل ابتداء؛ لأنه إراقة لمادة الحياة في غير موضعها. يتبعه غالبا الرغبة في التخلص من آثاره بقتل الجنين قبل أن يتخلق أو بعد أن يتخلق، قبل مولده أو بعد مولده فإذا ترك الجنين للحياة ترك في الغالب لحياة شريرة، أو حياة مهينة، فهي حياة مضيعة في المجتمع على نحو من الأنحاء.. وهو قتل في صورة أخرى. قتل للجماعة التي يفشو فيها. فتضيع الأنساب وتختلط الدماء، وتذهب الثقة في العرض والولد، وتتحلل الجماعة وتتفكك روابطها، فتنتهي إلى ما يشبه الموت بين الجماعات.
وهو قتل للجماعة من جانب آخر، إذ أن سهولة قضاء الشهوة عن طريقه يجعل الحياة الزوجية نافلة لا ضرورة لها، ويجعل الأسرة تبعة لا داعي إليها، والأسرة هي المحضن الصالح للفراخ الناشئة، لا تصح فطرتها ولا تسلم تربيتها إلا فيه.
وما من أمة فشت فيها الفاحشة إلا صارت إلى انحلال، منذ التاريخ القديم إلى العصر الحديث. وقد يغر بعضهم أن أوربا وأمريكا تملكان زمام القوة المادية اليوم مع فشو هذه الفاحشة فيهما. ولكن آثار هذا الانحلال في الأمم القديمة منها كفرنسا ظاهرة لا شك فيها. أما في الأمم الفتية كالولايات المتحدة، فإن فعلها لم تظهر بعد آثاره بسبب حداثة هذا الشعب واتساع موارده كالشاب الذي يسرف في شهواته فلا يظهر أثر الإسراف في بنيته وهو شاب ولكنه سرعان ما يتحطم عندما يدلف إلى الكهولة فلا يقوى على احتمال آثار السن، كما يقوى عليها المعتدلون من أنداده!
والقرآن يحذر من مجرد مقاربة الزنا. وهي مبالغة في التحرز. لأن الزنا تدفع إليه شهوة عنيفة. فالتحرز من المقاربة أضمن. فعند المقاربة من أسبابه لا يكون هناك ضمان.
ومن ثم يأخذ الإسلام الطريق على أسبابه الدافعة، توقيا للوقوع فيه.. يكره الاختلاط في غير ضرورة. ويحرم الخلوة. وينهى عن التبرج بالزينة. ويحض على الزواج لمن استطاع، ويوصي بالصوم لمن لا يستطيع. ويكره الحواجز التي تمنع من الزواج كالمغالاة في المهور. وينفي الخوف من العيلة والإملاق بسبب الأولاد. ويحض على مساعدة من يبتغون الزواج ليحصنوا أنفسهم. ويوقع أشد العقوبة على الجريمة حين تقع، وعلى رمي المحصنات الغافلات دون برهان ... إلى آخر وسائل الوقاية والعلاج، ليحفظ الجماعة الإسلامية من التردي والانحلال.
ويختم النهي عن قتل الأولاد وعن الزنا بالنهي عن قتل النفس إلا بالحق:
ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق. ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل، إنه كان منصورا ..
والإسلام دين الحياة ودين السلام، فقتل النفس عنده كبيرة تلي الشرك بالله، فالله واهب الحياة، وليس لأحد غير الله أن يسلبها إلا بإذنه وفي الحدود التي يرسمها. وكل نفس هي حرم لا يمس، وحرام إلا بالحق، وهذا الحق الذي يبيح قتل النفس محدد لا غموض فيه، وليس متروكا للرأي ولا متأثرا بالهوى. وقد جاء في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والزاني المحصن، والتارك لدينه المفارق للجماعة". "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن
فأما الأولى فهي القصاص العادل الذي إن قتل نفسا فقد ضمن الحياة لنفوس ولكم في القصاص حياة . حياة بكف يد الذين يهمون بالاعتداء على الأنفس والقصاص ينتظرهم فيردعهم قبل الإقدام على الفعلة النكراء.
[ ص: 2225 ] وحياة بكف يد أصحاب الدم أن تثور نفوسهم فيثأروا ولا يقفوا عند القاتل، بل يمضوا في الثأر، ويتبادلوا القتل فلا يقف هذا الفريق وذاك حتى تسيل دماء ودماء. وحياة بأمن كل فرد على شخصه واطمئنانه إلى عدالة القصاص، فينطلق آمنا يعمل وينتج فإذا الأمة كلها في حياة.
وأما الثانية فهي دفع للفساد القاتل في انتشار الفاحشة، وهي لون من القتل على النحو الذي بيناه.
وأما الثالثة فهي دفع للفساد الروحي الذي يشيع الفوضى في الجماعة، ويهدد أمنها ونظامها الذي اختاره الله لها، ويسلمها إلى الفرقة القاتلة. والتارك لدينه المفارق للجماعة إنما يقتل لأنه اختار الإسلام لم يجبر عليه، ودخل في جسم الجماعة المسلمة، واطلع على أسرارها، فخروجه بعد ذلك عليها فيه تهديد لها. ولو بقي خارجها ما أكرهه أحد على الإسلام. بل لتكفل الإسلام بحمايته إن كان من أهل الكتاب وبإجارته وإبلاغه مأمنه إن كان من المشركين. وليس بعد ذلك سماحة للمخالفين في العقيدة.
ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق .. ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ..
تلك الأسباب الثلاثة هي المبيحة للقتل، فمن قتل مظلوما بغير واحد من تلك الأسباب، فقد جعل الله لوليه - وهو أقرب عاصب إليه - سلطانا على القاتل، إن شاء قتله وإن شاء عفا على الدية، وإن شاء عفا عنه بلا دية. فهو صاحب الأمر في التصرف في القاتل، لأن دمه له.
وفي مقابل هذا السلطان الكبير ينهاه الإسلام عن الإسراف في القتل استغلالا لهذا السلطان الذي منحه إياه. والإسراف في القتل يكون بتجاوز القاتل إلى سواه ممن لا ذنب لهم - كما يقع في الثأر الجاهلي الذي يؤخذ فيه الآباء والأخوة والأبناء والأقارب بغير ذنب إلا أنهم من أسرة القاتل - ويكون الإسراف كذلك بالتمثيل بالقاتل، والولي مسلط على دمه بلا مثلة. فالله يكره المثلة والرسول قد نهى عنها.
فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا يقضي له الله، ويؤيده الشرع، وينصره الحاكم. فليكن عادلا في قصاصه، وكل السلطات تناصره وتأخذ له بحقه.
وفي تولية صاحب الدم على القصاص من القاتل، وتجنيد سلطان الشرع وسلطان الحاكم لنصرته تلبية للفطرة البشرية، وتهدئة للغليان الذي تستشعره نفس الولي. الغليان الذي قد يجرفه ويدفعه إلى الضرب يمينا وشمالا في حمى الغضب والانفعال على غير هدى. فأما حين يحس أن الله قد ولاه على دم القاتل، وأن الحاكم مجند لنصرته على القصاص، فإن ثائرته تهدأ ونفسه تسكن ويقف عند حد القصاص العادل الهادئ.
والإنسان إنسان فلا يطالب بغير ما ركب في فطرته من الرغبة العميقة في القصاص. لذلك يعترف الإسلام بهذه الفطرة ويلبيها في الحدود المأمونة، ولا يتجاهلها فيفرض التسامح فرضا. إنما هو يدعو إلى التسامح ويؤثره ويحبب فيه، ويأجر عليه. ولكن بعد أن يعطي الحق. فلولي الدم أن يقتص أو يصفح. وشعور ولي الدم بأنه قادر على كليهما قد يجنح به إلى الصفح والتسامح، أما شعوره بأنه مرغم على الصفح فقد يهيج نفسه ويدفع به إلى الغلو والجماح!