ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم، وهموا بإخراج الرسول، وهم بدءوكم أول مرة؟ أتخشونهم؟ فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين. قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم، ويخزهم وينصركم عليهم، ويشف صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم، ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم. أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم، ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة؟ والله خبير بما تعملون ..
تجيء هذه الفقرة بعد الفقرة السابقة التي تقرر فيها الاستنكار من ناحية المبدأ لأن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله، والأمر بتخيير المشركين في الجزيرة بين الدخول فيما دخل فيه المسلمون أو قتالهم - إلا من استجار فيجار حتى يسمع كلام الله ثم يبلغ مأمنه خارج دار الإسلام - وبيان علة هذا الاستنكار، وهي أنهم لا يرعون إلا ولا ذمة في مؤمن متى ظهروا على المؤمنين.
تجيء هذه الفقرة لمواجهة ما حاك في نفوس الجماعة المسلمة - بمستوياتها المختلفة التي سبق الحديث عنها - من تردد وتهيب للإقدام على هذه الخطوة الحاسمة! ومن رغبة وتعلل في أن يفيء المشركون الباقون إلى الإسلام دون اللجوء إلى القتال الشامل! ومن خوف على النفوس والمصالح وركون إلى أيسر الوسائل!...
والنصوص القرآنية تواجه هذه المشاعر والمخاوف والتعلات باستجاشة قلوب المسلمين بالذكريات والأحداث القريبة والبعيدة. تذكرهم بنقض المشركين لما أبرموه معهم من عقود وما عقدوه معهم من أيمان. وتذكرهم [ ص: 1611 ] بما هم به المشركون من إخراج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مكة قبل الهجرة. وتذكرهم بأن المشركين هم الذين بدؤوهم بالاعتداء في المدينة.. ثم تثير فيهم الحياء والنخوة أن يكونوا إنما يخشون لقاء المشركين.
والله أولى أن يخشوه إن كانوا مؤمنين.. ثم تشجعهم على قتال المشركين لعل الله أن يعذبهم بأيديهم، فيكونوا هم ستارا لقدرة الله في تعذيب أعدائه وأعدائهم، وخزيانهم وقهرهم. وشفاء صدور المؤمنين الذين أوذوا في الله منهم.. ثم تواجه التعلات التي تحيك في صدور البعض من الأمل في دخول المشركين الباقين في الإسلام دون حرب ولا قتال. تواجه هذه التعلات بأن الرجاء الحقيقي في أن يفيء هؤلاء إلى الإسلام أولى أن يتعلق بانتصار المسلمين، وهزيمة المشركين. فيومئذ قد يفيء بعضهم - ممن يقسم الله له التوبة - إلى الإسلام المنتصر الظاهر الظافر!.. وفي النهاية تلفتهم الآيات إلى أن سنة الله هي ابتلاء الجماعات بمثل هذه التكاليف ليظهر حقيقة ما هم عليه. وأن السنة لا تتبدل ولا تحيد..
ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم، وهموا بإخراج الرسول، وهم بدءوكم أول مرة؟ أتخشونهم؟ فالله أحق أن تخشوه، إن كنتم مؤمنين ..
إن تاريخ المشركين مع المسلمين كله نكث للأيمان، ونقض للعهود. وأقرب ما كان من هذا نقضهم لعهدهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديبية. ولقد قبل - صلى الله عليه وسلم - من شروطهم - بإلهام من ربه وهداية - ما حسبه بعض أفاضل أصحابه قبولا للدنية! ووفى لهم بعهده أدق ما يكون الوفاء وأسماه. ولكنهم هم لم يفوا، وخاسوا بالعهد بعد عامين اثنين، عند أول فرصة سنحت.. كما أن المشركين هم الذين هموا بإخراج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قبل في مكة; وبيتوا أمرهم في النهاية على قتله قبل الهجرة. وكان هذا في بيت الله الحرام الذي يأمن فيه القاتل منهم على دمه وماله; حتى لكان الواحد يلقى قاتل أخيه أو أبيه في الحرم فلا يمسه بسوء. أما محمد رسول الله الداعي إلى الهدى والإيمان وعبادة الله وحده، فلم يرعوا معه هذه الخصلة; وهموا بإخراجه; ثم تآمروا على حياته; وبيتوا قتله في بيت الله الحرام، بلا تحرج ولا تذمم مما يتحرجون منه ويتذممون مع أصحاب الثارات!.. كذلك كانوا هم الذين هموا بقتال المسلمين وحربهم في المدينة. فهم الذين أصروا - بقيادة أبي جهل - على ملاقاة المسلمين بعد أن نجت القافلة التي خرجوا لها ثم قاتلوهم بادئين في أحد وفي الخندق. ثم جمعوا لهم في حنين كذلك.. وكلها وقائع حاضرة أو ذكريات قريبة; وكلها تنم عن الإصرار الذي يصفه قول الله تعالى: ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا كما تنم عن طبيعة العلاقة بين المعسكر الذي يعبد آلهة من دون الله تجاه المعسكر الذي لا يعبد إلا الله..
وحين يستعرض السياق هذا الشريط الطويل من الذكريات والمواقف والأحداث، في هذه اللمسات السريعة العميقة الإيقاع في قلوب المسلمين، يخاطبهم:
أتخشونهم؟ ..
فإنهم لا يقعدون عن قتال المشركين هؤلاء إلا أن تكون هي الخشية والخوف والتهيب!
ويعقب على السؤال بما هو أشد استجاشة للقلوب من السؤال:
فالله أحق أن تخشوه، إن كنتم مؤمنين ..
[ ص: 1612 ] إن المؤمن لا يخشى أحدا من العبيد. فالمؤمن لا يخشى إلا الله. فإذا كانوا يخشون المشركين فالله أحق بالخشية، وأولى بالمخافة; وما يجوز أن يكون لغيره في قلوب المؤمنين مكان!
وإن مشاعر المؤمنين لتثور; وهي تستجاش بتلك الذكريات والوقائع والأحداث.. وهم يذكرون بتآمر المشركين على نبيهم صلى الله عليه وسلم.. وهم يستعرضون نكث المشركين لعهودهم معهم وتبييتهم لهم الغدر كلما التمسوا منهم غرة، أو وجدوا في موقفهم ثغرة. وهم يتذكرون مبادأة المشركين لهم بالعداء والقتال بطرا وطغيانا.. وفي غمرة هذه الثورة يحرض المؤمنين على القتال:
قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم، وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم ..
قاتلوهم يجعلكم الله ستار قدرته، وأداة مشيئته، فيعذبهم بأيديكم ويخزهم بالهزيمة وهم يتخايلون بالقوة، وينصركم عليهم ويشف صدور جماعة من المؤمنين ممن آذاهم وشردهم المشركون. يشفها من غيظها المكظوم، بانتصار الحق كاملا، وهزيمة الباطل، وتشريد المبطلين..
وليس هذا وحده ولكن خيرا آخر ينتظر وثوابا آخر ينال:
ويتوب الله على من يشاء ..
فانتصار المسلمين قد يرد بعض المشركين إلى الإيمان، ويفتح بصيرتهم على الهدى حين يرون المسلمين ينصرون، ويحسون أن قوة غير قوة البشر تؤيدهم، ويرون آثار الإيمان في مواقفهم - وهذا ما كان فعلا - وعندئذ ينال المسلمون المجاهدون أجر جهادهم، وأجر هداية الضالين بأيديهم; وينال الإسلام قوة جديدة تضاف إلى قوته بهؤلاء المهتدين التائبين:
والله عليم حكيم .
عليم بالعواقب المخبوءة وراء المقدمات. حكيم يقدر نتائج الأعمال والحركات.
إن بروز قوة الإسلام وتقريرها ليستهوي قلوبا كثيرة تصد عن الإسلام الضعيف، أو الإسلام المجهول القوة والنفوذ. وإن الدعوة إلى الإسلام لتختصر نصف الطريق حين تكون الجماعة المسلمة بادية القوة، مرهوبة الجانب، عزيزة الجناب.
على أن الله سبحانه وهو يربي الجماعة المسلمة بالمنهج القرآني الفريد لم يكن يعدها وهي في مكة قلة قليلة مستضعفة مطاردة، إلا وعدا واحدا: هو الجنة. ولم يكن يأمرها إلا أمرا واحدا: هو الصبر.. فلما أن صبرت وطلبت الجنة وحدها دون الغلب، آتاها الله النصر; وجعل يحرضها عليه ويشفي صدورها به. ذلك أن الغلب والنصر عندئذ لم يكن لها ولكن لدينه وكلمته. وإن هي إلا ستار لقدرته..
ثم إنه لم يكن بد أن يجاهد المسلمون المشركين كافة، وأن تنبذ عهود المشركين كافة; وأن يقف المسلمون إزاءهم صفا.. لم يكن بد من ذلك لكشف النوايا والخبايا، ولإزالة الأستار التي يقف خلفها من لم يتجرد للعقيدة والأعذار التي يحتج بها من يتعاملون مع المشركين للكسب، ومن يوادونهم لآصرة من قربى أو مصلحة.. لم يكن بد من إزالة هذه الأستار والمعاذير، وإعلان المفاصلة للجميع، لينكشف الذين يخبئون في قلوبهم خبيئة، ويتخذون من دون الله ورسوله والمؤمنين وليجة يلجون منها إلى مصالحهم وروابطهم مع المشركين، في ظل العلاقات غير المتميزة أو الواضحة بين المعسكرات المختلفة: أم حسبتم أن تتركوا ولما [ ص: 1613 ] يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة، والله خبير بما تعملون .
لقد كان في المجتمع المسلم - كما هو الحال عادة - فئة تجيد المداورة، وتنفذ من الأسوار. وتتقن استخدام الأعذار. وتدور من خلف الجماعة، وتتصل بخصومها استجلابا للمصلحة ولو على حساب الجماعة، مرتكنة إلى ميوعة العلاقات ووجود ثغرات في المفاصلة بين المعسكرات. فإذا وضحت المفاصلة وأعلنت قطعت الطريق على تلك الفئة، وكشفت المداخل والمسارب للأنظار.
وإنه لمن مصلحة الجماعة، ومن مصلحة العقيدة، أن تهتك الأستار وتكشف الولائج، وتعرف المداخل، فيمتاز المكافحون المخلصون، ويكشف المداورون الملتوون، ويعرف الناس كلا الفريقين على حقيقته، وإن كان الله يعلمهم من قبل:
والله خبير بما تعملون ..
ولكنه سبحانه يحاسب الناس على ما يتكشف من حقيقتهم بفعلهم وسلوكهم. وكذلك جرت سنته بالابتلاء لينكشف الخبيء وتتميز الصفوف، وتتمحص القلوب. ولا يكون ذلك كما يكون بالشدائد والتكاليف والمحن والابتلاءات.