وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون
إنها جولة لتقرير المفاصلة التي انتهت بها الموجة السابقة ; فقوم النبي - صلى الله عليه وسلم - هم الذين كذبوا بما جاءهم به - وهو الحق - ومن ثم انفصل ما بينه وبين قومه وانبت ; وأمر أن يفاصلهم فيعلن إليهم أنه ليس عليهم بوكيل ، وأنه يتركهم لمصيرهم الذي لا بد آت ، وأمر أن يعرض عنهم فلا يجالسهم متى رآهم يخوضون في الدين ، ويتخذونه لعبا ولهوا ، ولا يوقرونه التوقير الواجب للدين ، وأمر - مع ذلك - أن يذكرهم ويحذرهم ويبلغهم وينذرهم ، ولكن على أنه وإياهم - وهم قومه - فريقان مختلفان ، وأمتان متميزتان . . فلا قوم ولا جنس ولا عشيرة ولا أهل في الإسلام . . إنما هو الدين الذي يربط ما بين الناس أو يفصم . . وإنما هي العقيدة التي تجمع بين الناس أو تفرق. وحين يوجد أساس الدين توجد تلك الروابط الأخرى . وحين تنفصم هذه العروة تفصم الروابط والصلات .
وهذه هي الخلاصة المجملة لهذه الموجة من السياق . [ ص: 1127 ] وكذب به قومك - وهو الحق - قل: لست عليكم بوكيل لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون . .
والخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيه ، ويعطي المؤمنين من ورائه ، الثقة التي تملأ القلب بالطمأنينة . الثقة بالحق - ولو كذب به قومه وأصروا على التكذيب - فما هم بالحكم في هذا الأمر ، إنما كلمة الفصل فيه لله سبحانه . وهو يقرر أنه الحق . وأن لا قيمة ولا وزن لتكذيب القوم !
ثم يأمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يبرأ من قومه ، وينفض منهم يده ، وأن يعلنهم بهذه المفاصلة ، ويعلمهم أنه لا يملك لهم شيئا ; وأنه ليس حارسا عليهم ولا موكلا بهم بعد البلاغ ، ولا مكلفا أن يهدي قلوبهم - فليس هذا من شأن الرسول - ومتى أبلغهم ما معه من الحق ، فقد انتهى بينه وبينهم الأمر ; وأنه يخلي بينهم وبين المصير الذي لا بد أن ينتهي إليه أمرهم . فإن لكل نبأ مستقرا ينتهي إليه ويستقر عنده . وعندئذ يعلمون ما سيكون !
لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون . .
وفي هذا الإجمال من التهديد ما يزلزل القلوب . .
إنها الطمأنينة الواثقة بالحق ; الواثقة بنهاية الباطل مهما تبجح ، الواثقة بأخذ الله للمكذبين في الأجل المرسوم ، الواثقة من أن كل نبأ إلى مستقر وكل حاضر إلى مصير .
وما أحوج أصحاب الدعوة إلى الله في مواجهة التكذيب من قومهم ، والجفوة من عشيرتهم ، والغربة في أهلهم ، والأذى والشدة والتعب واللأواء . . ما أحوجهم إلى هذه الطمأنينة الواثقة التي يسكبها القرآن الكريم في القلوب !
فإذا أنهى إليهم هذا البلاغ ، وإذا واجه تكذيبهم بهذه المفاصلة . . فإنه - صلى الله عليه وسلم - مأمور بعد ذلك ألا يجالسهم - حتى للبلاغ والتذكير - إذا رآهم يخوضون في آيات الله بغير توقير ; ويتحدثون عن الدين بغير ما ينبغي للدين من الجد والمهابة ; ويجعلون الدين موضعا للعب واللهو ; بالقول أو بالفعل ; حتى لا تكون مجالسته لهم - وهم على مثل هذه الحال - موافقة ضمنية على ما هم فيه ; أو قلة غيرة على الدين الذي لا يغار المسلم على حرمة كما يغار عليه . فإذا أنساه الشيطان فجلس معهم ، ثم تذكر ، قام من فوره وفارق مجلسهم :
وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره. وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين . .
ولقد كان هذا الأمر للرسول - صلى الله عليه وسلم - ويمكن في حدود النص أن يكون أمرا لمن وراءه من المسلمين . . كان هذا الأمر في مكة . حيث كان عمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقف عند حدود الدعوة . وحيث كان غير مأمور بقتال للحكمة التي أرادها الله في هذه الفترة . وحيث كان الاتجاه واضحا لعدم الاصطدام بالمشركين ما أمكن . . فكان هذا الأمر بألا يجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجالس المشركين ; متى رآهم يخوضون في آيات الله ويذكرون دينه بغير توقير ، والمسارعة إلى ترك هذه المجالس - لو أنساه الشيطان - بمجرد أن يتذكر أمر الله ونهيه . وكان المسلمون كذلك مأمورين بهذا الأمر كما تقول بعض الروايات . . والقوم الظالمون ، المقصود بهم هنا : القوم المشركون . كما هو التعبير الغالب في القرآن الكريم . . [ ص: 1128 ] فأما بعد أن قامت للإسلام دولة في المدينة ، فكان للنبي - صلى الله عليه وسلم - شأن آخر مع المشركين . وكان الجهاد والقتال حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله . حيث لا يجترئ أحد على الخوض في آيات الله ! ثم يكرر السياق المفاصلة بين المؤمنين والمشركين ، كما قررها من قبل بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين . ويقرر اختلاف التبعة واختلاف المصير :
وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء، ولكن ذكرى لعلهم يتقون . .
فليست هنالك تبعة مشتركة بين المتقين والمشركين . فهما أمتان مختلفتان - وإن اتحدتا في الجنس والقوم - فهذه لا وزن لها في ميزان الله ، ولا في اعتبار الإسلام . . إنما المتقون أمة ، والظالمون (أي المشركون ) أمة ، وليس على المتقين شيء من تبعة الظالمين وحسابهم . ولكنهم إنما يقومون بتذكيرهم رجاء أن يتقوا مثلهم ، وينضموا إليهم . . وإلا فلا مشاركة في شيء ، إذا لم تكن مشاركة في عقيدة !
هذا دين الله وقوله . . ولمن شاء أن يقول غيره . ولكن ليعلم أنه يخرج من دين الله كله إذ يقول ما يقول !
ويستمر السياق في تقرير هذه المفاصلة ; وفي بيان الحدود التي تكون فيها المعاملة
وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا، وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع، وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها. أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا، لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون . .
ونقف من الآية أمام عدة أمور :
أولها : أن الرسول صلى الله عليه وسلم - وينسحب الأمر على كل مسلم - مأمور أن يهمل شأن الذين يتخذون دينهم لعبا ولهوا . . وهذا يتم بالقول كما يتم بالفعل . . فالذي لا يجعل لدينه وقاره واحترامه باتخاذه قاعدة حياته اعتقادا وعبادة ، وخلقا وسلوكا ، وشريعة وقانونا ، إنما يتخذ دينه لعبا ولهوا . . والذي يتحدث عن مبادئ هذا الدين وشرائعه فيصفها أوصافا تدعو إلى اللعب واللهو . كالذين يتحدثون عن "الغيب " - وهو أصل من أصول العقيدة - حديث الاستهزاء . والذين يتحدثون عن "الزكاة " وهي ركن من أركان الدين حديث الاستصغار . والذين يتحدثون عن الحياء والخلق والعفة - وهي من مبادئ هذا الدين - بوصفها من أخلاق المجتمعات الزراعية ، أو الإقطاعية ، أو "البرجوازية " الزائلة ! والذين يتحدثون عن قواعد الحياة الزوجية المقررة في الإسلام حديث إنكار أو استنكار . والذين يصفون الضمانات التي جعلها الله للمرأة لتحفظ عفتها بأنها "أغلال ! " . . وقبل كل شيء وبعد كل شيء . . الذين ينكرون حاكمية الله المطلقة في حياة الناس الواقعية : السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتشريعية . . ويقولون : إن للبشر أن يزاولوا هذا الاختصاص دون التقيد بشريعة الله . . . أولئك جميعا من المعنيين في هذه الآيات بأنهم يتخذون دينهم لعبا ولهوا . وبأن المسلم مأمور بمفاصلتهم ومقاطعتهم إلا للذكرى . وبأنهم الظالمون - أي : المشركون - والكافرون الذين أبسلوا بما كسبوا ، فلهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون . .
وثانيها : أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وينسحب الأمر على كل مسلم - مأمور بعد إهمال شأن هؤلاء الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا - أن يقوم بتذكيرهم وتخويفهم من أن ترتهن نفوسهم بما كسبوا ، وأن يلاقوا الله ليس لهم من دونه ولي ينصرهم ، ولا شفيع لهم ; كما أنه لا يقبل منهم فدية لتطلق نفوسهم بعد ارتهانها بما كسبت .
وللتعبير القرآني جماله وعمقه وهو يقول : [ ص: 1129 ] وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع، وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها . .
فكل نفس على حدة تبسل (أي ترتهن وتؤخذ ) بما كسبت ، حالة أن ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع ، ولا يقبل منها عدل تفتدى به وتفك الربقة !
فأما أولئك الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا فهؤلاء قد ارتهنوا بما كسبوا ; وحق عليهم ما سبق في الآية ; وكتب عليهم هذا المصير :
أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا، لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون . .
لقد أخذوا بما فعلوا ; وهذا جزاؤهم : شراب ساخن يشوي الحلوق والبطون ; وعذاب أليم بسبب كفرهم ، الذي دل عليه استهزاؤهم بدينهم . .
وثالثها : قول الله تعالى في المشركين : الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا . .
فهل هو دينهم ؟ . .
إن النص ينطبق على من دخل في الإسلام ، ثم اتخذ دينه هذا لعبا ولهوا . . وقد وجد هذا الصنف من الناس وعرف باسم المنافقين . . ولكن هذا كان في المدينة . .
فهل هو ينطبق على المشركين الذين لم يدخلوا في الإسلام ؟ إن الإسلام هو الدين . . هو دين البشرية جميعا . . سواء من آمن به ومن لم يؤمن . . فالذي رفضه إنما رفض دينه . . باعتبار أنه الدين الوحيد الذي يعده الله دينا ويقبله من الناس بعد بعثة خاتم النبيين .
ولهذه الإضافة دلالتها في قوله :
وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا . .
فهي - والله أعلم - إشارة إلى هذا المعنى الذي أسلفناه ، من اعتبار الإسلام دينا للبشرية كافة . فمن اتخذه لعبا ولهوا ، فإنما يتخذ دينه كذلك . . ولو كان من المشركين . .
ولا نزال نجدنا في حاجة إلى تقرير من هم المشركون ؟ إنهم الذين يشركون بالله أحدا في خصائص الألوهية . سواء في الاعتقاد بألوهية أحد مع الله . أو بتقديم الشعائر التعبدية لأحد مع الله . أو بقبول الحاكمية والشريعة من أحد مع الله . ومن باب أولى من يدعون لأنفسهم واحدة من هذه ، مهما تسموا بأسماء المسلمين ! فلنكن من أمر ديننا على يقين !
ورابعها : حدود مجالسة الظالمين - أي : المشركين - والذين يتخذون دينهم لعبا ولهوا . . وقد سبق القول بأنها لمجرد التذكير والتحذير . فليست لشيء وراء ذلك متى سمع الخوض في آيات الله ; أو ظهر اتخاذها لعبا ولهوا بالعمل بأية صورة مما ذكرنا أو مثلها . .
وقد جاء في قول القرطبي في كتابه : الجامع لأحكام القرآن بصدد هذه الآية :
"في هذه الآية رد من كتاب الله عز وجل ، على من زعم أن الأئمة الذين هم حجج وأتباعهم ، لهم أن يخالطوا الفاسقين ، ويصوبوا آراءهم تقاة . . "
ونحن نقول : إن المخالطة بقصد الموعظة والتذكير وتصحيح الفاسد والمنحرف من آراء الفاسقين تبيحها الآية في الحدود التي بينتها . أما مخالطة الفاسقين والسكوت عما يبدونه من فاسد القول والفعل من باب التقية [ ص: 1130 ] فهو المحظور . لأنه - في ظاهره - إقرار للباطل ، وشهادة ضد الحق . وفيه تلبيس على الناس ، ومهانة لدين الله وللقائمين على دين الله . وفي هذه الحالة يكون النهي والمفارقة .
كذلك روى القرطبي في كتابه هذه الأقوال :
"قال ابن خويزمنداد : من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر - مؤمنا كان أو كافرا - قال : وكذلك منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو ، ودخول كنائسهم والبيع ، ومجالسة الكفار وأهل البدع ; وألا تعتقد مودتهم ، ولا يسمع كلامهم ولا مناظرتهم . وقد قال بعض أهل البدع لأبي عمران النخعي : اسمع مني كلمة . فأعرض عنه ، وقال : ولا نصف كلمة ! . ومثله عن .وقال أيوب السختياني : من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله ، وأخرج الإسلام من قلبه ، ومن زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها ; ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة ، وإذا علم الله من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له . وروى الفضيل بن عياض عن أبو عبد الله الحاكم - رضي الله عنها - قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : عائشة . . من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام
فهذا كله في صاحب البدعة وهو على دين الله . . وكله لا يبلغ مدى من يدعي خصائص الألوهية بمزاولته للحاكمية ; ومن يقره على هذا الادعاء . . فليس هذا بدعة مبتدع ; ولكنه كفر كافر ، أو شرك مشرك . مما لم يتعرض له السلف لأنه لم يكن في زمانهم . فمنذ أن قام الإسلام في الأرض لم يبلغ من أحد أن يدعي هذه الدعوى ، وهو يزعم الإسلام . ولم يقع شيء من ذلك إلا بعد الحملة الفرنسية التي خرج بعدها الناس من إطار الإسلام - إلا من عصم الله - وكذلك لم يعد في قول هؤلاء السلف ما ينطبق على هذا الذي كان ! فقد تجاوز كل ما تحدثوا عنه بمثل هذه الأحكام . .