يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء.. بعضهم أولياء بعض.. ومن يتولهم منكم فإنه منهم.. إن الله لا يهدي القوم الظالمين .. يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه. أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين. يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم.. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. والله واسع عليم .. إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون . . .
ثم يربي القرآن وعي المسلم بحقيقة أعدائه ، وحقيقة المعركة التي يخوضها معهم ويخوضونها معه . إنها معركة العقيدة . فالعقيدة هي القضية القائمة بين المسلم وكل أعدائه . . وهم يعادونه لعقيدته ودينه ، قبل أي شيء آخر ، وهم يعادونه هذا العداء الذي لا يهدأ لأنهم هم فاسقون عن دين الله ، ومن ثم يكرهون كل من يستقيم على دين الله : قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله، وما أنزل إلينا، وما أنزل من قبل. وأن أكثركم فاسقون فهذه هي العقدة ; وهذه هي الدوافع الأصيلة !
وقيمة هذا المنهج ، وقيمة هذه التوجيهات الأساسية فيه ، عظيمة . فإخلاص الولاء لله ورسوله ودينه وللجماعة المسلمة القائمة على هذا الأساس ، ومعرفة طبيعة المعركة وطبيعة الأعداء فيها . . أمران مهمان سواء في تحقيق شرائط الإيمان أو في التربية الشخصية للمسلم ، أو في التنظيم الحركي للجماعة المسلمة . . فالذين يحملون راية هذه العقيدة لا يكونون مؤمنين بها أصلا ، ولا يكونون في ذواتهم شيئا ، ولا يحققون في واقع الأرض أمرا ما لم تتم في نفوسهم المفاصلة الكاملة بينهم وبين سائر المعسكرات التي لا ترفع رايتهم ، وما لم يتمحض ولاؤهم لله ورسوله ولقيادتهم الخاصة المؤمنة به ، وما لم يعرفوا طبيعة أعدائهم وبواعثهم وطبيعة المعركة التي يخوضونها معهم ، وما لم يستيقنوا أنهم جميعا إلب عليهم ، وأن بعضهم أولياء بعض في حرب الجماعة المسلمة والعقيدة الإسلامية على السواء .
والنصوص في هذا الدرس لا تقف عند كشف بواعث المعركة في نفوس أعداء الجماعة المسلمة . بل تكشف كذلك طبيعة هؤلاء الأعداء ومدى فسقهم وانحرافهم ، ليتبين المسلم حقيقة من يحاربه ، وليطمئن ضميره إلى المعركة التي يخوضها ، وليقتنع وجدانه بضرورة هذه المعركة ، وأنه لا مفر منها :
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء.. بعضهم أولياء بعض .. يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ..
وإذا جاءوكم قالوا: آمنا. وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به، والله أعلم بما كانوا يكتمون وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان، وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون وقالت اليهود: يد الله مغلولة، غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا. بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء. وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا . . ومن هذه صفاتهم ، ومواقفهم من الجماعة المسلمة ، وتألبهم عليها ، واستهزاؤهم بدينها وصلاتها ، لا مناص للمسلم من دفعهم وهو مطمئن الضمير . .
كذلك تقرر النصوص نهاية المعركة ونتيجتها ، وقيمة الإيمان في مصائر الجماعات في هذه الحياة الدنيا قبل [ ص: 909 ] الجزاء في الحياة الآخرة : ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون .. ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل، وما أنزل إليهم من ربهم، لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم . .
كما تقرر صفة المسلم الذي يختاره الله لدينه ، ويمنحه هذا الفضل العظيم في اختياره لهذا الدور الكبير :
يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم.. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم . .
وكل هذه التقريرات خطوات في المنهج ، وفي صياغة الفرد المسلم ، والجماعة المسلمة على الأساس المتين .
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء. بعضهم أولياء بعض. ومن يتولهم منكم فإنه منهم. إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم، يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة. فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم؟ حبطت أعمالهم، فأصبحوا خاسرين . .
ويحسن أن نبين أولا معنى الولاية التي ينهى الله الذين آمنوا أن تكون بينهم وبين اليهود والنصارى . .
إنها تعني التناصر والتحالف معهم . ولا تتعلق بمعنى اتباعهم في دينهم . فبعيد جدا أن يكون بين المسلمين من يميل إلى اتباع اليهود والنصارى في الدين . إنما هو ولاء التحالف والتناصر ، الذي كان يلتبس على المسلمين أمره ، فيحسبون أنه جائز لهم ، بحكم ما كان واقعا من تشابك المصالح والأواصر ، ومن قيام هذا الولاء بينهم وبين جماعات من اليهود قبل الإسلام ، وفي أوائل العهد بقيام الإسلام في المدينة ، حتى نهاهم الله عنه وأمر بإبطاله . بعدما تبين عدم إمكان قيام الولاء والتحالف والتناصر بين المسلمين واليهود في المدينة . .
وهذا المعنى معروف محدد في التعبيرات القرآنية . وقد جاء في صدد الكلام عن العلاقة بين المسلمين في المدينة والمسلمين الذين لم يهاجروا إلى دار الإسلام . فقال الله سبحانه : ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا . . وطبيعي أن المقصود هنا ليس الولاية في الدين . فالمسلم ولي المسلم في الدين على كل حال . إنما المقصود هو ولاية التناصر والتعاون . فهي التي لا تقوم بين المسلمين في دار الإسلام والمسلمين الذين لم يهاجروا إليهم . . وهذا اللون من الولاية هو الذي تمنع هذه الآيات أن يقوم بين الذين آمنوا وبين اليهود والنصارى بحال ، بعدما كان قائما بينهم أول العهد في المدينة .
إن ، ولكنهما يختلطان على بعض المسلمين ، الذين لم تتضح في نفوسهم الرؤية الكاملة لحقيقة هذا الدين ووظيفته ، بوصفه حركة منهجية واقعية ، تتجه إلى إنشاء واقع في الأرض ، وفق التصور الإسلامي الذي يختلف في طبيعته عن سائر التصورات التي تعرفها البشرية ; وتصطدم - من ثم - بالتصورات والأوضاع المخالفة ، كما تصطدم بشهوات الناس وانحرافهم وفسوقهم عن منهج الله ، وتدخل في معركة لا حيلة فيها ، ولا بد منها ، لإنشاء ذلك الواقع الجديد الذي تريده ، وتتحرك إليه حركة إيجابية فاعلة منشئة . . سماحة الإسلام مع أهل الكتاب شيء ، واتخاذهم أولياء شيء آخر
وهؤلاء الذين تختلط عليهم تلك الحقيقة ينقصهم الحس النقي بحقيقة العقيدة ، كما ينقصهم الوعي الذكي لطبيعة المعركة وطبيعة موقف أهل الكتاب فيها ; ويغفلون عن التوجيهات القرآنية الواضحة الصريحة فيها ، فيخلطون بين دعوة الإسلام إلى السماحة في معاملة أهل الكتاب والبر بهم في المجتمع المسلم الذي يعيشون فيه [ ص: 910 ] مكفولي الحقوق ، وبين الولاء الذي لا يكون إلا لله ورسوله وللجماعة المسلمة . ناسين ما يقرره القرآن الكريم من أن أهل الكتاب . . بعضهم أولياء بعض في حرب الجماعة المسلمة . . وأن هذا شأن ثابت لهم ، وأنهم ينقمون من المسلم إسلامه ، وأنهم لن يرضوا عن المسلم إلا أن يترك دينه ويتبع دينهم . وأنهم مصرون على الحرب للإسلام وللجماعة المسلمة . وأنهم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر . . إلى آخر هذه التقريرات الحاسمة .
إن المسلم مطالب بالسماحة مع أهل الكتاب ، ولكنه منهي عن الولاء لهم بمعنى التناصر والتحالف معهم . وإن طريقه لتمكين دينه وتحقيق نظامه المتفرد لا يمكن أن يلتقي مع طريق أهل الكتاب ، ومهما أبدى لهم من السماحة والمودة فإن هذا لن يبلغ أن يرضوا له البقاء على دينه وتحقيق نظامه ، ولن يكفهم عن موالاة بعضهم لبعض في حربه والكيد له . .
وسذاجة أية سذاجة وغفلة أية غفلة ، أن نظن أن لنا وإياهم طريقا واحدا نسلكه للتمكين للدين ! أمام الكفار والملحدين ! فهم مع الكفار والملحدين ، إذا كانت المعركة مع المسلمين ! ! !
وهذه الحقائق الواعية يغفل عنها السذج منا في هذا الزمان وفي كل زمان ; حين يفهمون أننا نستطيع أن نضع أيدينا في أيدي أهل الكتاب في الأرض للوقوف في وجه المادية والإلحاد - بوصفنا جميعا أهل دين ! - ناسين تعليم القرآن كله ; وناسين تعليم التاريخ كله . فأهل الكتاب هؤلاء هم الذين كانوا يقولون للذين كفروا من المشركين : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا . . وأهل الكتاب هؤلاء هم الذين ألبوا المشركين على الجماعة المسلمة في المدينة ، وكانوا لهم درعا وردءا . وأهل الكتاب هم الذين شنوا الحروب الصليبية خلال مائتي عام ، وهم الذين ارتكبوا فظائع الأندلس ، وهم الذين شردوا العرب المسلمين في فلسطين ، وأحلوا اليهود محلهم ، متعاونين في هذا مع الإلحاد والمادية ! وأهل الكتاب هؤلاء هم الذين يشردون المسلمين في كل مكان . . في الحبشة والصومال وإريتريا والجزائر ، ويتعاونون في هذا التشريد مع الإلحاد والمادية والوثنية ، في يوغسلافيا والصين والتركستان والهند ، وفي كل مكان !
ثم يظهر بيننا من يظن - في بعد كامل عن تقريرات القرآن الجازمة - أنه يمكن أن يقوم بيننا وبين أهل الكتاب هؤلاء ولاء وتناصر . ندفع به المادية الإلحادية عن الدين !
إن هؤلاء لا يقرؤون القرآن . وإذا قرؤوه اختلطت عليهم دعوة السماحة التي هي طابع الإسلام ; فظنوها دعوة الولاء الذي يحذر منه القرآن .
إن هؤلاء لا يعيش الإسلام في حسهم ، لا بوصفه عقيدة لا يقبل الله من الناس غيرها ، ولا بوصفه حركة إيجابية تستهدف إنشاء واقع جديد في الأرض ; تقف في وجه عداوات أهل الكتاب اليوم ، كما وقفت له بالأمس . الموقف الذي لا يمكن تبديله . لأنه الموقف الطبيعي الوحيد ! وندع هؤلاء في إغفالهم أو غفلتهم عن التوجيه القرآني ، لنعي نحن هذا التوجيه القرآني الصريح :
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء.. بعضهم أولياء بعض.. ومن يتولهم منكم فإنه منهم. إن الله لا يهدي القوم الظالمين . .
هذا النداء موجه إلى الجماعة المسلمة في المدينة - ولكنه في الوقت ذاته موجه لكل جماعة مسلمة تقوم في أي ركن من أركان الأرض إلى يوم القيامة - موجه لكل من ينطبق عليه ذات يوم صفة : الذين آمنوا . .
ولقد كانت المناسبة الحاضرة إذ ذاك لتوجيه هذا النداء للذين آمنوا ، أن المفاصلة لم تكن كاملة ولا حاسمة [ ص: 911 ] بين بعض المسلمين في المدينة وبعض أهل الكتاب - وبخاصة اليهود - فقد كانت هناك علاقات ولاء وحلف ، وعلاقات اقتصاد وتعامل ، وعلاقات جيرة وصحبة . . وكان هذا كله طبيعيا مع الوضع التاريخي والاقتصادي والاجتماعي في المدينة قبل الإسلام ، بين أهل المدينة من العرب وبين اليهود بصفة خاصة . . وكان هذا الوضع يتيح لليهود أن يقوموا بدورهم في الكيد لهذا الدين وأهله ; بكل صنوف الكيد التي عددتها وكشفتها النصوص القرآنية الكثيرة ; والتي سبق استعراض بعضها في الأجزاء الخمسة الماضية من هذه الظلال ; والتي يتولى هذا الدرس وصف بعضها كذلك في هذه النصوص .
ونزل القرآن ليبث الوعي اللازم للمسلم في المعركة التي يخوضها بعقيدته ، لتحقيق منهجه الجديد في واقع الحياة . ولينشئ في ضمير المسلم تلك المفاصلة الكاملة بينه وبين كل من لا ينتمي إلى الجماعة المسلمة ولا يقف تحت رايتها الخاصة . المفاصلة التي لا تنهي السماحة الخلقية . فهذه صفة المسلم دائما . ولكنها تنهي الولاء الذي لا يكون في قلب المسلم إلا لله ورسوله والذين آمنوا . . الوعي والمفاصلة اللذان لا بد منهما للمسلم في كل أرض وفي كل جيل .
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء.. بعضهم أولياء بعض. ومن يتولهم منكم فإنه منهم. إن الله لا يهدي القوم الظالمين .
بعضهم أولياء بعض . . إنها حقيقة لا علاقة لها بالزمن . . لأنها حقيقة نابعة من طبيعة الأشياء . . إنهم لن يكونوا أولياء للجماعة المسلمة في أي أرض ولا في أي تاريخ . . وقد مضت القرون تلو القرون ترسم مصداق هذه القولة الصادقة . . لقد ولي بعضهم بعضا في حرب محمد - صلى الله عليه وسلم - والجماعة المسلمة في المدينة . وولي بعضهم بعضا في كل فجاج الأرض ، على مدار التاريخ . . ولم تختل هذه القاعدة مرة واحدة ; ولم يقع في هذه الأرض إلا ما قرره القرآن الكريم ، في صيغة الوصف الدائم ، لا الحادث المفرد . . واختيار الجملة الاسمية على هذا النحو . . بعضهم أولياء بعض . . ليست مجرد تعبير ! إنما هي اختيار مقصود للدلالة على الوصف الدائم الأصيل !
ثم رتب على هذه الحقيقة الأساسية نتائجها . . فإنه إذا كان اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض فإنه لا يتولاهم إلا من هو منهم . والفرد الذي يتولاهم من الصف المسلم ، يخلع نفسه من الصف ويخلع عن نفسه صفة هذا الصف "الإسلام " وينضم إلى الصف الآخر . لأن هذه هي النتيجة الطبيعية الواقعية :
ومن يتولهم منكم فإنه منهم . .
وكان ظالما لنفسه ولدين الله وللجماعة المسلمة . . وبسبب من ظلمه هذا يدخله الله في زمرة اليهود والنصارى الذين أعطاهم ولاءه . ولا يهديه إلى الحق ولا يرده إلى الصف المسلم :
إن الله لا يهدي القوم الظالمين . .
لقد كان هذا تحذيرا عنيفا للجماعة المسلمة في المدينة . ولكنه تحذير ليس مبالغا فيه . فهو عنيف . نعم ; ولكنه يمثل الحقيقة الواقعة . فما يمكن أن يمنح المسلم ولاءه لليهود والنصارى - وبعضهم أولياء بعض - ثم يبقى له إسلامه وإيمانه ، وتبقى له عضويته في الصف المسلم ، الذي يتولى الله ورسوله والذين آمنوا . . فهذا مفرق الطريق . .
وما يمكن أن يتميع حسم المسلم في المفاصلة الكاملة بينه وبين كل من ينهج غير منهج الإسلام ; وبينه وبين كل من يرفع راية غير راية الإسلام ; ثم يكون في وسعه بعد ذلك أن يعمل عملا ذا قيمة في الحركة الإسلامية [ ص: 912 ] الضخمة التي تستهدف - أول ما تستهدف - إقامة نظام واقعي في الأرض فريد ; يختلف عن كل الأنظمة الأخرى ; ويعتمد على تصور متفرد كذلك من كل التصورات الأخرى . .
إن اقتناع المسلم إلى درجة اليقين الجازم ، الذي لا أرجحة فيه ولا تردد ، بأن دينه هو الدين الوحيد الذي يقبله الله من الناس - بعد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم - وبأن منهجه الذي كلفه الله أن يقيم الحياة عليه ، منهج متفرد ; لا نظير له بين سائر المناهج ; ولا يمكن الاستغناء عنه بمنهج آخر ; ولا يمكن أن يقوم مقامه منهج آخر ; ولا تصلح الحياة البشرية ولا تستقيم إلا أن تقوم على هذا المنهج وحده دون سواه ; ولا يعفيه الله ولا يغفر له ولا يقبله إلا إذا هو بذل جهد طاقته في إقامة هذا المنهج بكل جوانبه : الاعتقادية والاجتماعية ; لم يأل في ذلك جهدا ، ولم يقبل من منهجه بديلا - ولا في جزء منه صغير - ولم يخلط بينه وبين أي منهج آخر في تصور اعتقادي ، ولا في نظام اجتماعي ، ولا في أحكام تشريعية ، إلا ما استبقاه الله في هذا المنهج من شرائع من قبلنا من أهل الكتاب . . .
إن اقتناع المسلم إلى درجة اليقين الجازم بهذا كله هو - وحده - الذي يدفعه للاضطلاع بعبء النهوض بتحقيق منهج الله الذي رضيه للناس ; في وجه العقبات الشاقة ، والتكاليف المضنية ، والمقاومة العنيدة ، والكيد الناصب ، والألم الذي يكاد يجاوز الطاقة في كثير من الأحيان . . وإلا فما العناء في أمر يغني عنه غيره - مما هو قائم في الأرض من جاهلية - سواء كانت هذه الجاهلية ممثلة في وثنية الشرك ، أو في انحراف أهل الكتاب ، أو في الإلحاد السافر . . بل ما العناء في إقامة المنهج الإسلامي ، إذا كانت الفوارق بينه وبين مناهج أهل الكتاب أو غيرهم قليلة ; يمكن الالتقاء عليها بالمصالحة والمهادنة ؟
إن الذين يحاولون تمييع هذه المفاصلة الحاسمة ، باسم التسامح والتقريب بين أهل الأديان السماوية ، يخطئون فهم معنى الأديان كما يخطئون فهم معنى التسامح . فالدين هو الدين الأخير وحده عند الله . والتسامح يكون في المعاملات الشخصية ، لا في التصور الاعتقادي ولا في النظام الاجتماعي . . إنهم يحاولون تمييع اليقين الجازم في نفس المسلم بأن الله لا يقبل دينا إلا الإسلام ، وبأن عليه أن يحقق منهج الله الممثل في الإسلام ولا يقبل دونه بديلا ولا يقبل فيه تعديلا - ولو طفيفا - هذا اليقين الذي ينشئه القرآن الكريم وهو يقرر : إن الدين عند الله الإسلام .. ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه .. واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك .. يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء.. بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم . . وفي القرآن كلمة الفصل . . ولا على المسلم من تميع المتميعين وتمييعهم لهذا اليقين !