وقبل أن يمضي في الاستعراض والتعقيب على أحداث المعركة التي انتهت بالهزيمة، يذكرهم بالمعركة التي انتهت بالنصر - معركة بدر - لتكون هذه أمام تلك، مجالا للموازنة وتأمل الأسباب والنتائج; ومعرفة مواطن الضعف ومواطن القوة، وأسباب النصر وأسباب الهزيمة . ثم - بعد ذلك - ليكون اليقين من أن النصر والهزيمة كليهما قدر من أقدار الله; لحكمة تتحقق من وراء النصر كما تتحقق من وراء الهزيمة سواء. وأن مرد الأمر في النهاية إلى الله على كلا الحالين، وفي جميع الأحوال:
ولقد نصركم الله ببدر - وأنتم أذلة - فاتقوا الله لعلكم تشكرون إذ تقول للمؤمنين: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا، يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين وما جعله الله إلا بشرى لكم، ولتطمئن قلوبكم به. وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ليقطع طرفا من الذين كفروا، أو يكبتهم فينقلبوا خائبين - ليس لك من الأمر شيء - أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ولله ما في السماوات وما في الأرض، يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، والله غفور رحيم
..
والنصر في بدر كان فيه رائحة المعجزة - كما أسلفنا - فقد تم بغير أداة من الأدوات المادية المألوفة للنصر.
لم تكن الكفتان فيها - بين المؤمنين والمشركين - متوازنتين ولا قريبتين من التوازن. كان المشركون حوالي ألف، خرجوا نفيرا لاستغاثة ، لحماية القافلة التي كانت معه، مزودين بالعدة والعتاد، والحرص على الأموال، والحمية للكرامة. وكان المسلمون حوالي ثلاثمائة، لم يخرجوا لقتال هذه الطائفة ذات الشوكة، إنما خرجوا لرحلة هينة. لمقابلة القافلة العزلاء وأخذ الطريق عليها; فلم يكن معهم - على قلة العدد - إلا القليل من العدة. وكان وراءهم في أبي سفيان المدينة مشركون لا تزال لهم قوتهم، ومنافقون لهم مكانتهم، ويهود يتربصون بهم.. وكانوا هم بعد ذلك كله قلة مسلمة في وسط خضم من الكفر والشرك في الجزيرة . ولم تكن قد زالت عنهم بعد صفة أنهم مهاجرون مطاردون من مكة ، وأنصار آووا هؤلاء المهاجرين ولكنهم ما يزالون نبتة غير مستقرة في هذه البيئة!.
فبهذا كله يذكرهم الله - سبحانه - ويرد ذلك النصر إلى سببه الأولى في وسط هذه الظروف: [ ص: 470 ] ولقد نصركم الله ببدر. وأنتم أذلة. فاتقوا الله لعلكم تشكرون ..
إن الله هو الذي نصرهم; ونصرهم لحكمة نص عليها في مجموعة هذه الآيات. وهم لا ناصر لهم من أنفسهم ولا من سواهم. فإذا اتقوا وخافوا فليتقوا وليخافوا الله، الذي يملك النصر والهزيمة ; والذي يملك القوة وحده والسلطان. فلعل التقوى أن تقودهم إلى الشكر; وأن تجعله شكرا وافيا لائقا بنعمة الله عليهم على كل حال.
هذه هي اللمسة الأولى في تذكيرهم بالنصر في بدر .. ثم يستحضر مشهدها ويستحيي صورتها في حسنهم، كأنهم اللحظة فيها:
إذ تقول للمؤمنين: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ..
وكانت هذه كلمات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر ، للقلة المسلمة التي خرجت معه; والتي رأت نفير المشركين، وهي خرجت لتلقى طائفة العير الموقرة بالمتاجر، لا لتلقى طائفة النفير الموقرة بالسلاح! وقد أبلغهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما بلغه يومها ربه، لتثبيت قلوبهم وأقدامهم، وهم بشر يحتاجون إلى العون في صورة قريبة من مشاعرهم وتصوراتهم ومألوفاتهم.. وأبلغهم كذلك شرط هذا المدد.. إنه الصبر والتقوى; الصبر على تلقي صدمة الهجوم، والتقوى التي تربط القلب بالله في النصر والهزيمة :
بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ..
فالآن يعلمهم الله أن مرد الأمر كله إليه، وأن الفاعلية كلها منه - سبحانه - وأن نزول الملائكة ليس إلا بشرى لقلوبهم; لتأنس بهذا وتستبشر، وتطمئن به وتثبت. أما النصر فمنه مباشرة، ومتعلق بقدره وإرادته بلا واسطة ولا سبب ولا وسيلة:
وما جعله الله إلا بشرى لكم، ولتطمئن قلوبكم به، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ..
وهكذا يحرص السياق القرآني على رد الأمر كله إلى الله، كي لا يعلق بتصور المسلم ما يشوب هذه القاعدة الأصيلة: قاعدة رد الأمر جملة إلى مشيئة الله الطليقة، وإرادته الفاعلة، وقدره المباشر. وتنحية الأسباب والوسائل عن أن تكون هي الفاعلة. وإنما هي أداة تحركها المشيئة. وتحقق بها ما تريده.
وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ..
وقد حرص القرآن الكريم على تقرير هذه القاعدة في التصور الإسلامي، وعلى تنقيتها من كل شائبة، وعلى تنحيه الأسباب الظاهرة والوسائل والأدوات عن أن تكون هي الفاعلة.. لتبقى الصلة المباشرة بين العبد والرب.
بين قلب المؤمن وقدر الله. بلا حواجز ولا عوائق ولا وسائل ولا وسائط . كما هي في عالم الحقيقة..
وبمثل هذه التوجيهات المكررة في القرآن، المؤكدة بشتى أساليب التوكيد، استقرت هذه الحقيقة في أخلاد المسلمين، على نحو بديع، هادئ، عميق، مستنير.
عرفوا أن الله هو الفاعل - وحده - وعرفوا كذلك أنهم مأمورون من قبل الله باتخاذ الوسائل والأسباب، وبذل الجهد، والوفاء بالتكاليف.. فاستيقنوا الحقيقة، وأطاعوا الأمر، في توازن شعوري وحركي عجيب! [ ص: 471 ] ولكن هذا إنما جاء مع الزمن، ومع الأحداث، ومع التربية بالأحداث، والتربية بالتعقيب على الأحداث..
كهذا التعقيب، ونظائره الكثيرة، في هذه السورة..
وفي هذه الآيات يستحضر مشهد بدر والرسول - صلى الله عليه وسلم - يعدهم الملائكة مددا من عند الله إذا هم استمسكوا بالصبر والتقوى والثبات في المعركة - حين يطلع المشركون عليهم من وجههم هذا.. ثم يخبرهم بحقيقة المصدر الفاعل - من وراء نزول الملائكة - وهو الله. الذي تتعلق الأمور كلها بإرادته، ويتحقق النصر بفعله وإذنه.
الله العزيز الحكيم ..
" فهو العزيز " القوي ذو السلطان القادر على تحقيق النصر. وهو الحكيم الذي يجري قدره وفق حكمته.
والذي يحقق هذا النصر ليحقق من ورائه حكمة..
ثم يبين حكمة هذا النصر .. أي: نصر.. وغاياته التي ليس لأحد من البشر منها شيء:
ليقطع طرفا من الذين كفروا. أو يكبتهم فينقلبوا خائبين - ليس لك من الأمر شيء - أو يتوب عليهم. أو يعذبهم فإنهم ظالمون ..
إن النصر من عند الله. لتحقيق قدر الله . وليس للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا للمجاهدين معه في النصر من غاية ذاتية ولا نصيب شخصي. كما أنه ليس له ولا لهم دخل في تحقيقه، وإن هم إلا ستار القدرة تحقق بهم ما تشاء! فلا هم أسباب هذا النصر وصانعوه; ولا هم أصحاب هذا النصر ومستغلوه! إنما هو قدر الله يتحقق بحركة رجاله، وبالتأييد من عنده. لتحقيق حكمة الله من ورائه وقصده:
ليقطع طرفا من الذين كفروا ..
فينقص من عددهم بالقتل، أو ينقص من أرضهم بالفتح، أو ينقص من سلطانهم بالقهر، أو ينقص من أموالهم بالغنيمة، أو ينقص من فاعليتهم في الأرض بالهزيمة!.
أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ..
أي يصرفهم مهزومين أذلاء، فيعودوا خائبين مقهورين.
أو يتوب عليهم ..
فإن انتصار المسلمين قد يكون للكافرين عظة وعبرة ، وقد يقودهم إلى الإيمان والتسليم، فيتوب الله عليهم من كفرهم، ويختم لهم بالإسلام والهداية..
أو يعذبهم فإنهم ظالمون ..
يعذبهم بنصر المسلمين عليهم. أو بأسرهم. أو بموتهم على الكفر الذي ينتهي بهم إلى العذاب.. جزاء لهم على ظلمهم بالكفر، وظلمهم بفتنة المسلمين، وظلمهم بالفساد في الأرض، وظلمهم بمقاومة الصلاح الذي يمثله منهج الإسلام للحياة وشريعته ونظامه.. إلى آخر صنوف الظلم الكامنة في الكفر والصد عن سبيل الله.
وعلى أية حال فهي حكمة الله، وليس لبشر منها شيء.. حتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرجه النص من مجال هذا الأمر، ليجرده لله وحده - سبحانه - فهو شأن الألوهية المتفردة بلا شريك.
بذلك ينسلخ المسلمون بأشخاصهم من هذا النصر: من أسبابه ومن نتائجه! وبذلك يطامنون من الكبر الذي يثيره النصر في نفوس المنتصرين، ومن البطر والعجب والزهو الذي تنتفخ به أرواحهم وأوداجهم! وبذلك [ ص: 472 ] يشعرون أن ليس لهم من الأمر شيء، إنما الأمر كله لله أولا وأخيرا .
وبذلك يرد أمر الناس - طائعهم وعاصيهم - إلى الله. فهذا الشأن شأن الله وحده - سبحانه. شأن هذه الدعوة وشأن هؤلاء الناس معها: طائعهم وعاصيهم سواء.. وليس للنبي - صلى الله عليه وسلم - وليس للمؤمنين معه إلا أن يؤدوا دورهم، ثم ينفضوا أيديهم من النتائج، وأجرهم من الله على الوفاء، وعلى الولاء، وعلى الأداء.
وملابسة أخرى في السياق اقتضت هذا التنصيص: ليس لك من الأمر شيء فسيرد في السياق قول بعضهم:
هل لنا من الأمر من شيء؟ .. وقولهم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا. .. ليقول لهم: إنما الطاعة والوفاء والأداء هي المطلوبة من الناس. وأما الأمر بعد ذلك فكله لله. ليس لأحد منه شيء. ولا حتى لرسول الله.. فهي الحقيقة الأصيلة في التصور الإسلامي. إن أحدا ليس له من الأمر من شيء. لا في نصر ولا في هزيمة.
وإقرارها في النفوس أكبر من الأشخاص وأكبر من الأحداث، وأكبر من شتى الاعتبارات..
ويختم هذا التذكير ببدر ، وهذا التقرير للحقائق الأصيلة في التصور، بالحقيقة الشاملة التي ترجع إليها حقيقة أن أمر النصر والهزيمة مرده إلى حكمة الله وقدره.. يختم هذا التقرير بتقرير أصله الكبير: وهو أن ، ومن ثم يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وفق ما يشاء: الأمر لله في الكون كله
ولله ما في السماوات وما في الأرض. يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، والله غفور رحيم ..
فهي المشيئة المطلقة، المستندة إلى الملكية المطلقة . وهو التصرف المطلق في شأن العباد، بحكم هذه الملكية لما في السماوات وما في الأرض. وليس هنالك ظلم ولا محاباة للعباد، في المغفرة أو في العذاب. إنما يقضي الأمر في هذا الشأن بالحكمة والعدل، وبالرحمة والمغفرة. فشأنه - سبحانه - الرحمة والمغفرة:
والله غفور رحيم ..
والباب مفتوح أمام العباد لينالوا مغفرته ورحمته ، بالعودة إليه، ورد الأمر كله له، وأداء الواجب المفروض، وترك ما وراء ذلك لحكمته وقدره ومشيئته المطلقة من وراء الوسائل والأسباب.