قال نوح: رب إنهم عصوني، واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا. ومكروا مكرا كبارا. وقالوا لا تذرن آلهتكم، ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا. وقد أضلوا كثيرا. ولا تزد الظالمين إلا ضلالا ..
رب إنهم عصوني! بعد كل هذا الجهاد، وبعد كل هذا العناء. وبعد كل هذا التوجيه. وبعد كل هذا التنوير. وبعد الإنذار والإطماع والوعد بالمال والبنين والرخاء.. بعد هذا كله كان العصيان. وكان السير وراء القيادات الضالة المضللة، التي تخدع الأتباع بما تملك من المال والأولاد، ومظاهر الجاه والسلطان. ممن [ ص: 3716 ] لم يزده ماله وولده إلا خسارا فقد أغراهم المال والولد بالضلال والإضلال، فلم يكن وراءهما إلا الشقاء والخسران.
هؤلاء القادة لم يكتفوا بالضلال.. ومكروا مكرا كبارا . مكرا متناهيا في الكبر. مكروا لإبطال الدعوة وإغلاق الطريق في وجهها إلى قلوب الناس. ومكروا لتزيين الكفر والضلال والجاهلية التي تخبط فيها القوم. وكان من مكرهم تحريض الناس على الاستمساك بالأصنام التي يسمونها آلهة: وقالوا: لا تذرن آلهتكم ..
بهذه الإضافة: "آلهتكم" لإثارة النخوة الكاذبة والحمية الآثمة في قلوبهم. وخصصوا من هذه الأصنام أكبرها شأنا فخصوها بالذكر ليهيج ذكرها في قلوب العامة المضللين الحمية والاعتزاز.. ولا تذرن ودا، ولا سواعا، ولا يغوث، ويعوق، ونسرا .. وهي أكبر آلهتهم التي ظلت تعبد في الجاهليات بعدهم إلى عهد الرسالة المحمدية.
وهكذا تلك القيادات الضالة المضللة تقيم أصناما، تختلف أسماؤها وأشكالها، وفق النعرة السائدة في كل جاهلية وتجمع حواليها الأتباع، وتهيج في قلوبهم الحمية لهذه الأصنام، كي توجههم من هذا الخطام إلى حيث تشاء، وتبقيهم على الضلال الذي يكفل لها الطاعة والانقياد: وقد أضلوا كثيرا ككل قيادة ضالة تجمع الناس حول الأصنام.. أصنام الأحجار. وأصنام الأشخاص. وأصنام الأفكار.. سواء!! للصد عن دعوة الله، وتوجيه القلوب بعيدا عن الدعاة، بالمكر الكبار، والكيد والإصرار!
هنا انبعث من قلب النبي الكريم نوح - عليه السلام - ذلك الدعاء على الظالمين الضالين المضلين، الماكرين الكائدين:
ولا تزد الظالمين إلا ضلالا ..
ذلك الدعاء المنبعث من قلب جاهد طويلا، وعانى كثيرا، وانتهى - بعد كل وسيلة - إلى اقتناع بأن لا خير في القلوب الظالمة الباغية العاتية; وعلم أنها لا تستحق الهدى ولا تستأهل النجاة.
وقبل أن يعرض السياق بقية دعاء نوح - عليه السلام - يعرض ما صار إليه الظالمون الخاطئون في الدنيا والآخرة جميعا! فأمر الآخرة كأمر الدنيا حاضر بالقياس إلى علم الله، وبالقياس إلى الوقوع الثابت الذي لا تغيير فيه:
مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا. فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا .
فبخطيئاتهم وذنوبهم ومعصياتهم أغرقوا فأدخلوا نارا. والتعقيب بالفاء مقصود هنا، لأن إدخالهم النار موصول بإغراقهم والفاصل الزمني القصير كأنه غير موجود، لأنه في موازين الله لا يحسب شيئا. فالترتيب مع التعقيب كائن بين إغراقهم في الأرض وإدخالهم النار يوم القيامة. وقد يكون هو عذاب القبر في الفترة القصيرة بين الدنيا والآخرة.. فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا ..
لا بنون ولا مال ولا سلطان ولا أولياء من الآلهة المدعاة!
وفي آيتين اثنتين قصيرتين ينتهي أمر هؤلاء العصاة العتاة، ويطوى ذكرهم من الحياة! وذلك قبل أن أن يذكر السياق دعاء نوح عليهم بالهلاك والفناء.. ولا يفصل هنا قصة غرقهم، ولا قصة الطوفان الذي أغرقهم. لأن الظل المراد إبقاؤه في هذا الموقف هو ظل الإجهاز السريع، حتى ليعبر المسافة بين الإغراق والإحراق في حرف الفاء! على طريقة القرآن في إيقاعاته التعبيرية والتصويرية المبدعة. فنقف نحن في ظلال [ ص: 3717 ] السياق لا نتعداها إلى تفصيل قصة الإغراق.. ولا الإحراق..!
ثم يكمل دعاء نوح الأخير وابتهاله إلى ربه في نهاية المطاف:
وقال نوح: رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا. إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا. رب اغفر لي ولوالدي، ولمن دخل بيتي مؤمنا، وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا ..
فقد ألهم قلب نوح أن الأرض تحتاج إلى غسل يطهر وجهها من الشر العارم الخالص الذي انتهى إليه القوم في زمانه. وأحيانا لا يصلح أي علاج آخر غير تطهير وجه الأرض من الظالمين، لأن وجودهم يجمد الدعوة إلى الله نهائيا، ويحول بينها وبين الوصول إلى قلوب الآخرين. وهي الحقيقة التي عبر عنها نوح، وهو يطلب الإجهاز على أولئك الظالمين إجهازا كاملا لا يبقي منهم ديارا - أي صاحب ديار - فقال: إنك إن تذرهم يضلوا عبادك .. ولفظة "عبادك" توحي بأنهم المؤمنون. فهي تجيء في السياق القرآني في مثل هذا الموضع بهذا المعنى. وذلك بفتنتهم عن عقيدتهم بالقوة الغاشمة، أو بفتنة قلوبهم بما ترى من سلطان الظالمين وتركهم من الله في عافية!
ثم إنهم يوجدون بيئة وجوا يولد فيها الكفار، وتوحي بالكفر من الناشئة الصغار، بما يطبعهم به الوسط الذي ينشئه الظالمون، فلا توجد فرصة لترى الناشئة النور، من خلال ما تغمرهم به البيئة الضالة التي صنعوها. وهي الحقيقة التي أشار إليها قول النبي الكريم نوح عليه السلام، وحكاها عنه القرآن: ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا .. فهم يطلقون في جو الجماعة أباطيل وأضاليل، وينشئون عادات وأوضاعا ونظما وتقاليد، ينشأ معها المواليد فجارا كفارا، كما قال نوح..
من أجل هذا دعا نوح - عليه السلام - دعوته الماحقة الساحقة. ومن أجل هذا استجاب الله دعوته، فغسل وجه الأرض من ذلك الشر; وجرف العواثير التي لا تجرفها إلا قوة الجبار القدير.
وإلى جانب الدعوة الساحقة الماحقة التي جعلها خاتمة دعائه وهو يقول: ولا تزد الظالمين إلا تبارا - أي هلاكا ودمارا - إلى جانب هذا كان الابتهال الخاشع الودود:
رب اغفر لي ولوالدي، ولمن دخل بيتي مؤمنا، وللمؤمنين والمؤمنات ... ..
ودعاء نوح النبي لربه أن يغفر له.. هو الأدب النبوي الكريم في حضرة الله العلي العظيم.. أدب العبد في حضرة الرب. العبد الذي لا ينسى أنه بشر، وأنه يخطئ، وأنه يقصر، مهما يطع ويعبد، وأنه لا يدخل الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله بفضله، كما قال أخوه النبي الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو الاستغفار الذي دعا قومه العصاة الخاطئين إليه، فاستكبروا عليه.. وهو هو النبي يستغفر بعد كل هذا الجهد وكل هذا العناء. يستغفر وهو يقدم لربه سجل الحساب!
ودعاؤه لوالديه.. هو بر النبوة بالوالدين المؤمنين - كما نفهم من هذا الدعاء - ولو لم يكونا مؤمنين لروجع فيهما كما روجع في شأن ولده الكافر الذي أغرق مع المغرقين (كما جاء في سورة هود).
ودعاؤه الخاص لمن دخل بيته مؤمنا.. هو بر المؤمن بالمؤمن; وحب الخير لأخيه كما يحبه لنفسه، وتخصيص الذي يدخل بيته مؤمنا، لأن هذه كانت علامة النجاة، وحصر المؤمنين الذين سيصحبهم معه في السفينة.
ودعاؤه العام بعد ذلك للمؤمنين والمؤمنات.. هو بر المؤمن بالمؤمنين كافة في كل زمان ومكان. وشعوره بآصرة القربى على مدار الزمن واختلاف السكن. وهو السر العجيب في هذه العقيدة التي تربط بين أصحابها [ ص: 3718 ] برباط الحب الوثيق، والشوق العميق، على تباعد الزمان والمكان. السر الذي أودعه الله هذه العقيدة، وأودعه هذه القلوب المربوطة برباط العقيدة..
وفي مقابل هذا الحب للمؤمنين، كان الكره للظالمين.
ولا تزد الظالمين إلا تبارا ..
وتختم السورة، وقد عرضت تلك الصورة الوضيئة لجهاد النبي الكريم نوح عليه السلام. وتلك الصورة المطموسة لإصرار المعاندين الظالمين.. وقد تركت هذه وتلك في القلب حبا لهذا الروح الكريم وإعجابا بهذا الجهاد النبيل، وزادا للسير في هذا الطريق الصاعد، أيا كانت المشاق والمتاعب. وأيا كانت التضحيات والآلام. فهو الطريق الوحيد الذي ينتهي بالبشرية إلى أقصى الكمال المقدر لها في هذه الأرض. حين ينتهي بها إلى الله، العلي الأعلى، الجليل العظيم..