ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا (51) وهذا من قبائح اليهود وحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أن أخلاقهم الرذيلة وطبعهم الخبيث، حملهم على ترك الإيمان بالله ورسوله، والتعوض عنه بالإيمان بالجبت والطاغوت، وهو الإيمان بكل عبادة لغير الله، أو حكم بغير شرع الله.
فدخل في ذلك السحر والكهانة، وعبادة غير الله، وطاعة الشيطان، كل هذا من الجبت والطاغوت، وكذلك حملهم الكفر والحسد على أن فضلوا طريقة الكافرين بالله -عبدة الأصنام- على طريق المؤمنين فقال: ويقولون للذين كفروا أي: لأجلهم تملقا لهم ومداهنة، وبغضا للإيمان: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أي: طريقا. فما أسمجهم وأشد عنادهم وأقل عقولهم! كيف سلكوا هذا [ ص: 315 ] المسلك الوخيم والوادي الذميم؟ هل ظنوا أن هذا يروج على أحد من العقلاء، أو يدخل عقل أحد من الجهلاء، فهل يفضل دين قام على عبادة الأصنام والأوثان، واستقام على تحريم الطيبات، وإباحة الخبائث، وإحلال كثير من المحرمات، وإقامة الظلم بين الخلق، وتسوية الخالق بالمخلوقين، والكفر بالله ورسله وكتبه، على دين قام على عبادة الرحمن، والإخلاص لله في السر والإعلان، والكفر بما يعبد من دونه من الأوثان والأنداد والكاذبين، وعلى صلة الأرحام والإحسان إلى جميع الخلق، حتى البهائم، وإقامة العدل والقسط بين الناس، وتحريم كل خبيث وظلم، والصدق في جميع الأقوال والأعمال، فهل هذا إلا من الهذيان، وصاحب هذا القول إما من أجهل الناس وأضعفهم عقلا وإما من أعظمهم عنادا وتمردا ومراغمة للحق، وهذا هو الواقع.
(52) ولهذا قال تعالى عنهم: أولئك الذين لعنهم الله أي: طردهم عن رحمته وأحل عليهم نقمته. ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا أي: يتولاه ويقوم بمصالحه ويحفظه عن المكاره، وهذا غاية الخذلان.
(53) أم لهم نصيب من الملك أي: فيفضلون من شاءوا على من شاءوا بمجرد أهوائهم، فيكونون شركاء لله في تدبير المملكة، فلو كانوا كذلك لشحوا وبخلوا أشد البخل، ولهذا قال: فإذا أي: لو كان لهم نصيب من الملك لا يؤتون الناس نقيرا أي: شيئا ولا قليلا. وهذا وصف لهم بشدة البخل على تقدير وجود ملكهم المشارك لملك الله. وأخرج هذا مخرج الاستفهام المتقرر إنكاره عند كل أحد.
(54) أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله أي: هل الحامل لهم على قولهم كونهم شركاء لله فيفضلون من شاءوا؟ أم الحامل لهم على ذلك الحسد للرسول وللمؤمنين على ما آتاهم الله من فضله؟ وذلك ليس ببدع ولا غريب على فضل الله. فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما وذلك ما أنعم الله به على إبراهيم وذريته من النبوة والكتاب والملك الذي أعطاه من أعطاه من أنبيائه ك "داود" و "سليمان". فإنعامه لم يزل مستمرا على عباده المؤمنين. فكيف ينكرون إنعامه بالنبوة والنصر والملك لمحمد صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وأجلهم وأعظمهم معرفة بالله وأخشاهم له؟
(55) فمنهم من آمن به أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم فنال بذلك السعادة الدنيوية [ ص: 316 ] والفلاح الأخروي. ومنهم من صد عنه عنادا وبغيا وحسدا فحصل لهم من شقاء الدنيا ومصائبها ما هو بعض آثار معاصيهم وكفى بجهنم سعيرا تسعر على من كفر بالله، وجحد نبوة أنبيائه من اليهود والنصارى وغيرهم من أصناف الكفرة.
(56) ولهذا قال: إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا أي: عظيمة الوقود شديدة الحرارة كلما نضجت جلودهم أي: احترقت بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب أي: ليبلغ العذاب منهم كل مبلغ. وكما تكرر منهم الكفر والعناد وصار وصفا لهم وسجية; كرر عليهم العذاب جزاء وفاقا، ولهذا قال: إن الله كان عزيزا حكيما أي: له العزة العظيمة والحكمة في خلقه وأمره، وثوابه وعقابه.
(57) والذين آمنوا أي: بالله وما أوجب الإيمان به وعملوا الصالحات من الواجبات والمستحبات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة أي: من الأخلاق الرذيلة، والخلق الذميم، ومما يكون من نساء الدنيا من كل دنس وعيب وندخلهم ظلا ظليلا .