تفسير سورة قد سمع
وهي مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم
نزلت هذه الآيات الكريمات في رجل من الأنصار اشتكته زوجته إلى الله، وجادلته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حرمها على نفسه، بعد الصحبة الطويلة، والأولاد، [ ص: 1788 ] وكان هو رجلا شيخا كبيرا، فشكت حالها وحاله إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكررت ذلك، وأبدت فيه وأعادت.
فقال تعالى: قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما أي: تخاطبكما فيما بينكما، إن الله سميع لجميع الأصوات، في جميع الأوقات، على تفنن الحاجات.
بصير يبصر دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، وهذا إخبار عن كمال سمعه وبصره، وإحاطتهما بالأمور الدقيقة والجليلة، وفي ضمن ذلك الإشارة بأن الله تعالى سيزيل شكواها، ويرفع بلواها، ولهذا ذكر حكمها، وحكم غيرها على وجه العموم، فقال: الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم المظاهرة من الزوجة: أن يقول الرجل لزوجته: "أنت علي كظهر أمي" أو غيرها من محارمه، أو "أنت علي حرام" وكان المعتاد عندهم في هذا لفظ "الظهر" ولهذا سماه الله "ظهارا" فقال: الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم أي: كيف يتكلمون بهذا الكلام الذي يعلمون أنه لا حقيقة له، فيشبهون أزواجهم بأمهاتهم اللاتي ولدنهم؟ ولهذا عظم الله أمره وقبحه، فقال: وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا أي: قولا شنيعا، وكذبا.
وإن الله لعفو غفور عمن صدر منه بعض المخالفات، فتداركها بالتوبة النصوح.
والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا اختلف العلماء في معنى العود، فقيل: معناه العزم على جماع من ظاهر منها، وأنه بمجرد عزمه تجب عليه الكفارة المذكورة، ويدل على هذا، أن الله تعالى ذكر في الكفارة أنها تكون قبل المسيس، وذلك إنما يكون بمجرد العزم، وقيل: معناه حقيقة الوطء، ويدل على ذلك أن الله قال: ثم يعودون لما قالوا والذي قالوا إنما هو الوطء.
وعلى كل من القولين ( فـ ) إذا وجد العود، صار كفارة هذا التحريم تحرير رقبة مؤمنة كما قيدت في آية القتل ذكر أو أنثى، بشرط أن تكون سالمة من العيوب الضارة بالعمل. من قبل أن يتماسا أي: يلزم الزوج أن يترك وطء زوجته التي ظاهر منها حتى يكفر برقبة.
ذلكم الحكم الذي ذكرناه لكم، توعظون به أي: يبين لكم حكمه مع الترهيب المقرون به، لأن معنى الوعظ ذكر الحكم مع الترغيب والترهيب، فالذي يريد أن يظاهر، إذا ذكر أن عليه عتق رقبة كف نفسه عنه، والله بما تعملون خبير فيجازي كل عامل بعمله.
فمن لم يجد رقبة يعتقها، بأن لم يجدها أو لم يجد ثمنها ( فـ ) عليه " صيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع " الصيام فإطعام ستين مسكينا إما أن يطعمهم من قوت بلده ما يكفيهم، كما هو قول كثير من المفسرين، وإما أن يطعم كل مسكين مد بر أو نصف صاع من غيره مما يجزي في الفطرة، كما هو قول طائفة أخرى.
ذلك الحكم الذي بيناه لكم، ووضحناه لكم لتؤمنوا بالله ورسوله وذلك بالتزام هذا الحكم وغيره من الأحكام، والعمل به، فإن التزام أحكام الله، والعمل بها من الإيمان، بل هي المقصودة ويزداد بها الإيمان ويكمل وينمو. وتلك حدود الله التي تمنع من الوقوع فيها، فيجب أن لا تتعدى ولا يقصر عنها.
وللكافرين عذاب أليم وفي هذه الآيات، عدة أحكام:
منها: لطف الله بعباده واعتناؤه بهم، حيث ذكر شكوى هذه المرأة المصابة، وأزالها ورفع عنها البلوى، بل رفع البلوى بحكمه العام لكل من ابتلي بمثل هذه القضية.
ومنها: أن الظهار مختص بتحريم الزوجة، لأن الله قال " من نسائهم " فلو حرم أمته، لم يكن ذلك ظهارا، بل هو من جنس تحريم الطعام والشراب، تجب فيه كفارة اليمين فقط.
ومنها: أنه لا يصح الظهار من امرأة قبل أن يتزوجها، لأنها لا تدخل في نسائه وقت الظهار، كما لا يصح طلاقها، سواء نجز ذلك أو علقه.
[ ص: 1790 ] ومنها: أن الظهار محرم، لأن الله سماه منكرا من القول وزورا.
ومنها: تنبيه الله على وجه الحكم وحكمته، لأن الله تعالى قال: ما هن أمهاتهم
ومنها: أنه يكره للرجل أن ينادي زوجته ويدعوها باسم محارمه، كقوله " يا أمي "" يا أختي "ونحوه، لأن ذلك يشبه المحرم.
ومنها: أن الكفارة إنما تجب بالعود لما قال المظاهر، على اختلاف القولين السابقين، لا بمجرد الظهار.
ومنها: أنه لإطلاق الآية في ذلك. يجزئ في كفارة الرقبة، الصغير والكبير، والذكر والأنثى،
ومنها: أنه يجب إخراجها إذا كانت عتقا أو صياما قبل المسيس، كما قيده الله. بخلاف كفارة الإطعام، فإنه يجوز المسيس والوطء في أثنائها.
ومنها: أنه لعل الحكمة في وجوب الكفارة قبل المسيس، أن ذلك أدعى لإخراجها، فإنه إذا اشتاق إلى الجماع، وعلم أنه لا يمكن من ذلك إلا بعد الكفارة، بادر بإخراجها.
ومنها: أنه لا بد من إطعام ستين مسكينا، فلو جمع طعام ستين مسكينا، ودفعها لواحد أو أكثر من ذلك، دون الستين لم يجز ذلك، لأن الله قال: فإطعام ستين مسكينا