قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين ولتعلمن نبأه بعد حين
قل يا أيها الرسول لهؤلاء المكذبين، إن طلبوا منك ما ليس لك ولا بيدك: إنما أنا منذر هذا نهاية ما عندي، وأما الأمر فلله تعالى، ولكني آمركم، وأنهاكم، وأحثكم على الخير وأزجركم عن الشر فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فعليها وما من إله إلا الله أي: ما أحد يؤله ويعبد بحق إلا الله الواحد القهار هذا تقرير لألوهيته، بهذا البرهان القاطع، وهو وحدته تعالى، وقهره لكل شيء، فإن القهر ملازم للوحدة، فلا يكون قهارين متساويين في قهرهما أبدا.
فالذي يقهر جميع الأشياء هو الواحد الذي لا نظير له، وهو الذي يستحق أن يعبد وحده، كما كان قاهرا وحده، وقرر ذلك أيضا بتوحيد الربوبية فقال: رب السماوات والأرض وما بينهما أي: خالقهما، ومربيهما، ومدبرها بجميع أنواع التدابير. العزيز الذي [ ص: 1503 ] له القوة، التي بها خلق المخلوقات العظيمة. الغفار لجميع الذنوب، صغيرها، وكبيرها، لمن تاب إليه وأقلع منها.
فهذا الذي يحب ويستحق أن يعبد، دون من لا يخلق ولا يرزق، ولا يضر ولا ينفع، ولا يملك من الأمر شيئا، وليس له قوة الاقتدار، ولا بيده مغفرة الذنوب والأوزار.
قل لهم، مخوفا ومحذرا، ومنهضا لهم ومنذرا: هو نبأ عظيم أي: ما أنبأتكم به من البعث والنشور والجزاء على الأعمال، خبر عظيم ينبغي الاهتمام الشديد بشأنه، ولا ينبغي إغفاله.
ولكن أنتم عنه معرضون كأنه ليس أمامكم حساب ولا عقاب ولا ثواب، فإن شككتم في قولي، وامتريتم في خبري، فإني أخبركم بأخبار لا علم لي بها ولا درستها في كتاب، فإخباري بها على وجهها، من غير زيادة ولا نقص، أكبر شاهد لصدقي، وأدل دليل على حق ما جئتكم به، ولهذا قال: ما كان لي من علم بالملإ الأعلى أي: الملائكة إذ يختصمون لولا تعليم الله إياي، وإيحاؤه إلي، ولهذا قال: إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين أي: ظاهر النذارة، جليها، فلا نذير أبلغ من نذارته صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر اختصام الملأ الأعلى فقال: إذ قال ربك للملائكة على وجه الإخبار إني خالق بشرا من طين أي: مادته من طين.
فإذا سويته أي: سويت جسمه وتم، ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فوطن الملائكة الكرام أنفسهم على ذلك، حين يتم خلقه ونفخ الروح فيه، امتثالا لربهم، وإكراما لآدم عليه السلام، فلما تم خلقه في بدنه وروحه، وامتحن الله آدم والملائكة في العلم، وظهر فضله عليهم، أمرهم الله بالسجود.
فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس لم يسجد استكبر عن أمر ربه، واستكبر على آدم وكان من الكافرين في علم الله تعالى.
فـ قال الله موبخا ومعاتبا: ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أي: شرفته وكرمته واختصصته بهذه الخصيصة، التي اختص بها عن سائر الخلق، وذلك يقتضي عدم التكبر عليه.
أستكبرت في امتناعك أم كنت من العالين
قال إبليس معارضا لربه ومناقضا: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين وبزعمه أن عنصر النار خير من عنصر الطين، وهذا من القياس الفاسد، [ ص: 1504 ] فإن عنصر النار مادة الشر والفساد، والعلو والطيش والخفة وعنصر الطين مادة الرزانة والتواضع وإخراج أنواع الأشجار والنباتات وهو يغلب النار ويطفؤها، والنار تحتاج إلى مادة تقوم بها، والطين قائم بنفسه، فهذا قياس شيخ القوم، الذي عارض به الأمر الشفاهي من الله، قد تبين غاية بطلانه وفساده، فما بالك بأقيسة التلاميذ الذين عارضوا الحق بأقيستهم؟ فإنها كلها أعظم بطلانا وفسادا من هذا القياس.
فـ قال الله له: فاخرج منها أي: من السماء والمحل الكريم. فإنك رجيم أي: مبعد مدحور.
وإن عليك لعنتي أي: طردي وإبعادي إلى يوم الدين أي: دائما أبدا.
قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون لشدة عداوته لآدم وذريته، ليتمكن من إغواء من قدر الله أن يغويه.
فـ قال الله مجيبا لدعوته، حيث اقتضت حكمته ذلك: فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم حين تستكمل الذرية، يتم الامتحان.
فلما علم أنه منظر، بادى ربه، من خبثه، بشدة العداوة لربه ولآدم وذريته، فقال: فبعزتك لأغوينهم أجمعين يحتمل أن الباء للقسم، وأنه أقسم بعزة الله ليغوينهم كلهم أجمعين.
إلا عبادك منهم المخلصين علم أن الله سيحفظهم من كيده. ويحتمل أن الباء للاستعانة، وأنه لما علم أنه عاجز من كل وجه، وأنه لا يضل أحدا إلا بمشيئة الله تعالى، فاستعان بعزة الله على إغواء ذرية آدم هذا، وهو عدو الله حقا.
ونحن يا ربنا العاجزون المقصرون، المقرون لك بكل نعمة، ذرية من شرفته وكرمته، فنستعين بعزتك العظيمة، وقدرتك، ورحمتك الواسعة لكل مخلوق، ورحمتك التي أوصلت إلينا بها، ما أوصلت من النعم الدينية والدنيوية، وصرفت بها عنا ما صرفت من النقم، أن تعيننا على محاربته وعداوته، والسلامة من شره وشركه، ونحسن الظن بك أن تجيب دعاءنا، ونؤمن بوعدك الذي قلت لنا: وقال ربكم ادعوني أستجب لكم فقد دعوناك كما أمرتنا، فاستجب لنا كما وعدتنا. إنك لا تخلف الميعاد .
.
قال الله تعالى فالحق والحق أقول أي: الحق وصفي، والحق قولي.
لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين فلما بين الرسول للناس الدليل ووضح لهم السبيل قال الله له:
قل ما أسألكم عليه أي: على دعائي إياكم من أجر وما أنا من المتكلفين أدعي [ ص: 1505 ] أمرا ليس لي، وأقفو ما ليس لي به علم، لا أتبع إلا ما يوحى إلي.
إن هو أي: هذا الوحي والقرآن إلا ذكر للعالمين يتذكرون به كل ما ينفعهم، من مصالح دينهم ودنياهم، فيكون شرفا ورفعة للعاملين به، وإقامة حجة على المعاندين.
فهذه السورة العظيمة، مشتملة على الذكر الحكيم، والنبأ العظيم، وإقامة الحجج والبراهين، على من كذب بالقرآن وعارضه، وكذب من جاء به، والإخبار عن عباد الله المخلصين، وجزاء المتقين والطاغين. فلهذا أقسم في أولها بأنه ذو الذكر، ووصفه في آخرها بأنه ذكر للعالمين.
وأكثر التذكير بها فيما بين ذلك، كقوله: واذكر عبدنا واذكر عبادنا رحمة من عندنا وذكرى هذا ذكر
اللهم علمنا منه ما جهلنا، وذكرنا منه ما نسينا، نسيان غفلة ونسيان ترك.
ولتعلمن نبأه أي: خبره بعد حين وذلك حين يقع عليهم العذاب وتتقطع عنهم الأسباب.
تم تفسير سورة ص بمنته تعالى وعونه.