وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين
وكذلك فتنا بعضهم ببعض استئناف مبين لما نشأ عنه ما سبق من النهي ، وذلك إشارة إلى مصدر ما بعده من الفعل ، الذي هو عبارة عن تقديمه تعالى لفقراء المؤمنين في أمر الدين بتوفيقهم للإيمان ، [ ص: 140 ] مع ما هم عليه في أمر الدنيا من كمال سوء الحال ، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجته المشار إليه ، وبعد منزلته في الكمال .
والكاف مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة ، ومحلها في الأصل النصب على أنه نعت لمصدر مؤكد محذوف ، والتقدير : فتنا بعضهم ببعض فتونا كائنا مثل ذلك الفتون ، ثم قدم على الفعل لإفادة القصر المفيد لعدم القصور فقط ، واعتبرت الكاف مقحمة ، فصار نفس المصدر المؤكد لا نعتا له ، والمعنى : ذلك الفتون الكامل البديع فتنا ; أي : ابتلينا بعض الناس ببعضهم لا فتونا غيره ، حيث قدمنا الآخرين في أمر الدين على الأولين المتقدمين عليهم في أمر الدنيا تقدما كليا .
واللام في قوله تعالى : ليقولوا للعاقبة ; أي : ليقول البعض الأولين مشيرين إلى الآخرين ، محقرين لهم نظرا إلى ما بينهما من التفاوت الفاحش الدنيوي ، وتعاميا عما هو مناط التفضيل حقيقة .
أهؤلاء من الله عليهم من بيننا بأن وفقهم لإصابة الحق ، ولما يسعدهم عنده تعالى من دوننا ، ونحن المقدمون والرؤساء ، وهم العبيد والفقراء ، وغرضهم بذلك إنكار وقوع المن رأسا ، على طريقة قولهم : لو كان خيرا ما سبقونا إليه ، لا تحقير الممنون عليهم مع الاعتراف بوقوعه بطريق الاعتراض عليه تعالى .
وقوله تعالى : أليس الله بأعلم بالشاكرين رد لقولهم ذلك وإبطال له ، وإشارة إلى أن مدار استحقاق الإنعام معرفة شأن النعمة ، والاعتراف بحق المنعم ، والاستفهام لتقرير علمه البالغ بذلك ; أي : أليس الله بأعلم بالشاكرين لنعمه ، حتى تستبعدوا إنعامه عليهم .
وفيه من الإشارة إلى أن أولئك الضعفاء عارفون بحق نعم الله تعالى في تنزيل القرآن ، والتوفيق للإيمان ، شاكرون له تعالى على ذلك ، مع التعريض بأن القائلين بمعزل من ذلك كله ما لا يخفى .