وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون
وقالوا لولا أنزل عليه ملك شروع في قدحهم في نبوته عليه السلام صريحا ، بعد ما أشير إلى قدحهم فيها ضمنا . وقيل : هو معطوف على جواب " لو " ، وليس بذاك ، لما أن تلك المقالة الشنعاء ليست مما يقدر صدوره عنهم على تقدير تنزيل الكتاب المذكور ، بل هي من أباطيلهم المحققة ، وخرافاتهم الملفقة التي يتعللون بها ، كلما ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل ; أي : هلا أنزل عليه عليه السلام ملك بحيث نراه ويكلمنا أنه نبي ، حسبما نقل عنهم فيما روي عن الكلبي ، ونظيره قولهم : ومقاتل لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا .
ولما كان مدار هذا الاقتراح على شيئين إنزال الملك كما هو ، وجعله معه عليه السلام نذيرا ، أجيب عنه بأن ذلك مما لا يكاد يدخل تحت الوجود أصلا ; لاشتماله على أمرين متباينين لا يجتمعان في الوجود ، لما أن إنزال الملك على صورته يقتضي انتفاء جعله نذيرا ، وجعله نذيرا يستدعي عدم إنزاله على صورته لا محالة .
وقد أشير إلى الأول بقوله تعالى : ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ; أي : لو أنزلنا ملكا على هيئته حسبما اقترحوه ، والحال أنه من هول المنظر ، بحيث لا تطيق بمشاهدته قوى الآحاد البشرية ، ألا يرى أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يشاهدون الملائكة ، ويفاوضونهم على الصور [ ص: 113 ] البشرية ، كضيف إبراهيم ولوط ، وخصم داود عليهم السلام ، وغير ذلك ، وحيث كان شأنهم كذلك ، وهم مؤيدون بالقوى القدسية ، فما ظنك بمن عداهم من العوام ، فلو شاهدوه كذلك لقضي أمر هلاكهم بالكلية واستحال جعله نذيرا ، وهو مع كونه خلاف مطلوبهم ، مستلزم لإخلاء العالم عما عليه يدور نظام الدنيا والآخرة من إرسال الرسل وتأسيس الشرائع .
وقد قال سبحانه : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ، وفيه كما ترى إيذان بأنهم في ذلك الاقتراح ، كالباحث عن حتفه بظلفه ، وأن عدم الإجابة إليه للبقيا عليهم .
وبناء الفعل الأول في الجواب للفاعل الذي هو نون العظمة ، مع كونه في السؤال مبنيا للمفعول ; لتهويل الأمر وتربية المهابة . وبناء الثاني للمفعول للجري على سنن الكبرياء .
وكلمة " ثم " في قوله تعالى : ثم لا ينظرون ; أي : لا يمهلون بعد نزوله طرفة عين ; فضلا عن أن ينذروا به ، كما هو المقصود بالإنذار للتنبيه على تفاوت ما بين قضاء الأمر وعدم الإنظار ، فإن مفاجأة العذاب أشد من نفس العذاب وأشق .
وقيل : في سبب إهلاكهم أنهم إذا عاينوا الملك قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته ، وهي آية لا شيء أبين منها ، ثم لم يؤمنوا ، لم يكن بد من إهلاكهم .
وقيل : إنهم إذا رأوه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف ، فيجب إهلاكهم .