فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون
كما يفصح عنه كلمة " لما " في قوله تعالى : فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فإن الحق : عبارة عن القرآن الذي أعرضوا عنه ، حين أعرضوا عن كل آية آية منه ، عبر بذلك إبانة لكمال قبح ما فعلوا به ; فإن تكذيب الحق مما لا يتصور صدوره [ ص: 110 ] عن أحد .
والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، لكن لا على أنها شيء مغاير له في الحقيقة واقع عقيبه ، أو حاصل بسببه ، بل على أن الأول هو عين الثاني حقيقة ، وإنما الترتيب بحسب التغاير الاعتباري ، وقد لتحقيق ذلك المعنى ، كما في قوله تعالى : فقد جاءوا ظلما وزورا بعد قوله تعالى : وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون ; فإن ما جاءوه ; أي : فعلوه من الظلم والزور عين قولهم المحكي ، لكنه لما كان مغايرا له مفهوما وأشنع منه حالا ، رتب عليه بالفاء ترتيب اللازم على الملزوم تهويلا لأمره ، كذلك مفهوم التكذيب بالحق ، حيث كان أشنع من مفهوم الإعراض المذكور ، أخرج مخرج اللازم البين البطلان ، فرتب عليه بالفاء إظهارا لغاية بطلانه ، ثم قيد ذلك بكونه بلا تأمل تأكيدا لشناعته ، وتمهيدا لبيان أن ما كذبوا به آثر ذي أثير ، له عواقب جليلة ستبدو لهم البتة ، والمعنى : أنهم حيث أعرضوا عن تلك الآيات عند إتيانها ، فقد كذبوا بما لا يمكن تكذيبه أصلا ، من غير أن يتدبروا في حاله ومآله ، ويقفوا على ما في تضاعيفه من الشواهد الموجبة لتصديقه ، كقوله تعالى : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله .
كما ينبئ عنه قوله تعالى : فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون فإن " ما " عبارة عن الحق المذكور ، عبر عنه بذلك تهويلا لأمره بإبهامه ، وتعليلا للحكم بما في حيز الصلة ، وأنباؤه عبارة عما سيحيق بهم من العقوبات العاجلة التي نطقت بها آيات الوعيد .
وفي لفظ الأنباء إيذان بغاية العظم ، لما أن النبأ لا يطلق إلا على خبر عظيم الوقع ، وحملها على العقوبات الآجلة ، أو على ظهور الإسلام وعلو كلمته ، يأباه الآيات الآتية .
و" سوف " لتأكيد مضمون الجملة وتقريره ; أي : فسيأتيهم البتة ، وإن تأخر مصداق أنباء الشيء الذي كانوا يكذبون به قبل ، من غير أن يتدبروا في عواقبه ، وإنما قيل : يستهزءون إيذانا بأن تكذيبهم كان مقرونا بالاستهزاء ، كما أشير إليه ، هذا على أن يراد بالآيات : الآية القرآنية ، وهو الأظهر .
وأما إن أريد بها : الآيات التكوينية ; فالفاء داخلة على علة جواب شرط محذوف ، والإعراض على حقيقته ، كأنه قيل : إن كانوا معرضين عن تلك الآيات ، فلا تعجب ، فقد فعلوا بما هو أعظم منها ما هو أعظم من الإعراض ، حيث كذبوا بالحق الذي هو أعظم الآيات ، ولا مساغ لحمل الآيات في هذا الوجه على كلها أصلا ، وأما ما قيل من أن المعنى : أنهم لما كانوا معرضين عن الآيات كلها كذبوا بالقرآن ، فمما ينبغي تنزيه التنزيل عن أمثاله .