إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله "القرح" بالفتح والضم لغتان كالضعف والضعف، وقد قرئ بهما، وقيل: هو بالفتح الجراح، وبالضم ألمها. وقرئ بفتحين وقيل: القرح والقرح كالطرد والطرد، والمعنى: إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ولم يثبطهم عن معاودتكم بالقتال فأنتم أحق بأن لا تضعفوا فإنكم ترجون من الله ما لا يرجون. وقيل: كلا المسين كان يوم أحد فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم :قتلوا منهم نيفا وعشرين رجلا منهم صاحب لوائهم وجرحوا عددا كثيرا وعقروا عامة خيلهم بالنبل. وتلك الأيام إشارة إلى الأيام الجارية فيما بين الأمم الماضية والآتية كافة لا إلى الأيام المعهودة خاصة من يوم بدر ويوم أحد بل هي داخلة فيها دخولا أوليا، و المراد بها: أوقات الظفر والغلبة. نداولها بين الناس نصرفها بينهم نديل لهؤلاء تارة ولهؤلاء أخرى، كقول من قال:
فيوما علينا ويوما لنا ... ويوما نساء ويوما نسر
والمداولة كالمعاورة، يقال: داولته بينهم فتداولوه، أي: عاورته فتعاوروه، واسم الإشارة مبتدأ و "الأيام" إما صفة له أو بدل منه أو عطف بيان له و"نداولها" خبره أو خبر و "نداولها" حال من "الأيام" والعامل معنى اسم الإشارة أو خبر بعد خبر، وصيغة المضارع الدالة على التجدد والاستمرار للإيذان بأن تلك المداولة سنة مسلوكة فيما بين الأمم قاطبة سابقتها ولاحقتها وفيه ضرب من التسلية. وقوله عز وجل: وليعلم الله الذين آمنوا إما من باب التمثيل، أي: ليعاملكم معاملة من يريد أن يعلم المخلصين الثابتين على الإيمان من غيرهم، أو العلم فيه مجاز عن التمييز بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب، أي: ليميز الثابتين على الإيمان من غيرهم كما في قوله تعالى: ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز [ ص: 90 ] الخبيث من الطيب أو هو على حقيقته معتبر من حيث تعلقه بالمعلوم من حيث إنه موجود بالفعل، إذ هو الذي يدور عليه فلك الجزاء لا من حيث أنه موجود بالقوة، وإطلاق الإيمان مع أن المراد هو الرسوخ والإخلاص فيه للإيذان بأن اسم الإيمان لا ينطلق على غيره، والالتفات إلى الغيبة بإسناده إلى اسم الذات المستجمع للصفات لتربية المهابة والإشعار بأن صدور كل واحد مما ذكر بصدد التعليل من أفعاله تعالى باعتبار منشأ معين من صفاته تعالى مغاير لمنشإ الآخر، والجملة علة لما هو فرد من أفراد مطلق المداولة التي نطق بها قوله تعالى: نداولها بين الناس من المداولة المعهودة الجارية بين فريقي المؤمنين والكافرين، واللام متعلقة بما دل عليه المطلق من الفعل المقيد بالوقوع بين الفريقين المذكورين أو بنفس الفعل المطلق باعتبار وقوعه بينهما، والجملة معطوفة على علة أخرى لها معتبرة إما على الخصوص والتعيين محذوفة لدلالة المذكورة عليها لكونها من مباديها، كأنه قيل: نداولها بينكم وبين عدوكم ليظهر أمركم وليعلم إلخ... فإن ظهور أعمالهم وخروجها من القوة إلى الفعل من مبادي تمييزهم عن غيرهم ، ومواجب تعلق العلم الأزلي بها من تلك الحيثية وكذا الحال في باب التمثيل فتأمل، وإما على العموم والإبهام للتنبيه على أن العلل غير منحصرة فيها عدد من الأمور وأن العبد يسوءه ما يجري عليه من النوائب ولا يشعر بأن الله تعالى جعل له في ذلك من الألطاف الخفية ما لا يخطر بالبال، كأنه قيل: نداولها بينكم ليكون من المصالح كيت وكيت وليعلم إلخ... وفيه من تأكيد التسلية ومزيد التبصرة ما لا يخفى، وتخصيص البيان بعلة هذا الفرد من مطلق المداولة دون سائر أفرادها الجارية فيما بين بقية الأمم تعيينا أو إبهاما لعدم تعلق الغرض العلمي ببيانها، ولك أن تجعل المحذوف المبهم عبارة عن علل سائر أفرادها للإشارة إجمالا إلى أن كل فرد من أفرادها له علة داعية إليه، كأنه قيل: نداولها بين الناس كافة ليكون كيت وكيت من الحكم الداعية إلى تلك الأفراد وليعلم إلخ... فـ "اللام" الأولى متعلقة بالفعل المطلق باعتبار تقييده بتلك الأفراد والثانية باعتبار تقييده بالفرد المعهود. وقيل: هي متعلقة بمحذوف مؤخر تقديره: وليعلم الله الذين آمنوا فعل ذلك. ويتخذ منكم شهداء جمع شهيد، أي: ويكرم ناسا منكم بالشهادة وهم شهداء أحد، فـ "من" ابتدائية أو تبعيضية متعلقة بـ "يتخذ" أو بمحذوف وقع حالا من شهداء أو جمع شاهد أي: ويتخذ منكم شهودا معدلين بما ظهر منهم من الثبات على الحق والصبر على الشدائد وغير ذلك من شواهد الصدق ليشهدوا على الأمم يوم القيامة، فـ "من" بيانية لأن تلك الشهادة وظيفة الكل دون المستشهدين فقط وأيا ما كان; ففي لفظ الاتخاذ المنبئ عن الاصطفاء والتقريب من تشريفهم وتفخيم شأنهم ما لا يخفى. وقوله تعالى: والله لا يحب الظالمين اعتراض مقرر لمضمون ما قبله ونفي المحبة كناية عن البغض وفي إيقاعه على الظالمين تعريض بمحبته تعالى لمقابليهم، والمراد بهم إما غير الثابتين على الإيمان فالتقرير من حيث إن بغضه تعالى لهم من دواعي إخراج المخلصين المصطفين للشهادة من بينهم، وإما الكفرة الذين أديل لهم، فالتقرير من حيث إن ذلك ليس بطريق النصرة لهم فإنها مختصة بأوليائه تعالى بل لما ذكر من الفوائد العائدة إلى المؤمنين.