فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين .
فإن لم تفعلوا : أي: ما أمرتم به من الإتيان بالمثل؛ بعدما بذلتم في السعي غاية المجهود؛ وجاوزتم في الحد كل حد معهود؛ متشبثين بالذيول؛ راكبين متن كل صعب وذلول؛ وإنما لم يصرح به إيذانا بعدم الحاجة إليه؛ بناء على كمال ظهور تهالكهم على ذلك؛ وإنما أورد في حيز الشرط مطلق الفعل؛ وجعل مصدر الفعل المأمور به مفعولا له؛ للإيجاز البديع المغني عن التطويل والتكرير؛ مع سر سري استقل به المقام؛ وهو الإيذان بأن المقصود بالتكليف هو إيقاع نفس الفعل المأمور به؛ لإظهار عجزهم عنه؛ لا لتحصيل المفعول؛ أي المأتي به؛ ضرورة استحالته؛ وأن مناط الجواب في الشرطية - أعني الأمر باتقاء النار - هو عجزهم عن إيقاعه؛ لا فوت حصول المفعول؛ فإن مدلول لفظ [ ص: 67 ] الفعل هو أنفس الأفعال الخاصة؛ لازمة كانت أو متعدية؛ من غير اعتبار تعلقاتها بمفعولاتها الخاصة؛ فإذا علق بفعل خاص متعد فإنما يقصد به إيقاع نفس ذلك الفعل؛ وإخراجه من القوة إلى الفعل؛ وأما تعلقه بمفعوله المخصوص فهو خارج عن مدلول الفعل المطلق؛ وإنما يستفاد ذلك من الفعل الخاص؛ ولذلك تراهم يتوسلون بذلك إلى تجريد الأفعال المتعدية عن مفعولاتها؛ وتنزيلها منزلة الأفعال اللازمة؛ فيقولون - مثلا -: معنى "فلان يعطي ويمنع": "يفعل الإعطاء والمنع"؛ يرشدك إلى هذا قوله (تعالى): فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون ؛ بعد قوله (تعالى): ائتوني بأخ لكم من أبيكم ؛ فإنه لما كان مقصود يوسف - عليه السلام - بالأمر؛ ومرمى غرضه بالتكليف منه؛ استحضار "بنيامين" لم يكتف في الشرطية الداعية لهم إلى الجد في الامتثال والسعي في تحقيق المأمور به؛ بالإشارة الإجمالية إلى الفعل؛ الذي ورد به الأمر؛ بأن يقول: "فإن لم تفعلوا"؛ بل أعاده بعينه؛ متعلقا بمفعوله؛ تحقيقا لمطلبه؛ وإعرابا عن مقصده؛ هذا.. وقد قيل: أطلق الفعل؛ وأريد به الإتيان؛ مع ما يتعلق به؛ إما على طريقة التعبير عن الأسماء الظاهرة بالضمائر الراجعة إليها؛ حذرا من التكرار؛ أو على طريقة ذكر اللازم وإرادة الملزوم؛ لما بينهما من التلازم المصحح للانتقال بمعونة قرائن الحال؛ فتدبروا إيثار كلمة "إن" المفيدة للشك؛ على "إذا"؛ مع تحقق الجزم بعدم فعلهم؛ مجاراة معهم بحسب حسبانهم قبل التجربة؛ أو التهكم بهم.
ولن تفعلوا : كلمة "لن" لنفي المستقبل؛ كـ "لا"؛ خلا أن في "لن" زيادة تأكيد؛ وتشديد؛ وأصلها عند "لا أن"؛ وعند الخليل: "لا"؛ أبدلت ألفها نونا؛ وعند الفراء: حرف مقتضب للمعنى المذكور؛ وهي إحدى الروايتين عن الخليل؛ والجملة اعتراض بين جزأي الشرطية؛ مقرر لمضمون مقدمها؛ ومؤكد لإيجاب العمل بتاليها؛ وهذه معجزة باهرة؛ حيث أخبر بالغيب الخاص علمه به - عز وجل -؛ وقد وقع الأمر كذلك؛ كيف لا.. ولو عارضوه بشيء يدانيه في الجملة لتناقله الرواة خلفا عن سلف. سيبويه:
فاتقوا النار : جواب للشرط؛ على أن اتقاء النار كناية عن الاحتراز من العناد؛ إذ بذلك يتحقق تسببه عنه؛ وترتبه عليه؛ كأنه قيل: فإذا عجزتم عن الإتيان بمثله - كما هو المقرر - فاحترزوا من إنكار كونه منزلا من عند الله - سبحانه -؛ فإنه مستوجب للعقاب بالنار؛ لكن أوثر عليه الكناية المذكورة المبنية على تصوير العناد بصورة النار؛ وجعل الاتصاف به عين الملابسة بها؛ للمبالغة في تهويل شأنه؛ وتفظيع أمره؛ وإظهار كمال العناية بتحذير المخاطبين منه؛ وتنفيرهم عنه؛ وحثهم على الجد في تحقيق المكني عنه؛ وفيه من الإيجاز البديع ما لا يخفى؛ حيث كان الأصل: فإن لم تفعلوا فقد صح صدقه عندكم؛ وإذا صح ذلك كان لزومكم العناد؛ وترككم الإيمان به؛ سببا لاستحقاقكم العقاب بالنار؛ فاحترزوا منه؛ واتقوا النار؛ التي وقودها الناس والحجارة ؛ صفة للنار؛ مورثة لها زيادة هول؛ وفظاعة - أعاذنا الله من ذلك -؛ والوقود: ما يوقد به النار؛ وترفع من الحطب؛ وقرئ بضم الواو؛ وهو مصدر سمي به المفعول مبالغة؛ كما يقال: فلان فخر قومه؛ وزين بلده؛ والمعنى أنها من الشدة بحيث لا تمس شيئا من رطب أو يابس إلا أحرقته؛ لا كنيران الدنيا؛ تفتقر في الالتهاب إلى وقود من حطب أو حشيش؛ وإنما جعل هذا الوصف صلة للموصول؛ مقتضية لكون انتسابها إلى ما نسبت هي إليه معلوما للمخاطب؛ بناء على أنهم سمعوه من أهل الكتاب قبل ذلك؛ أو من الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ أو سمعوا قبل هذه الآية المدنية قوله (تعالى): نارا وقودها الناس والحجارة ؛ فأشير ههنا إلى ما سمعوه أولا؛ وكون سورة التحريم مدنية لا يستلزم كون [ ص: 68 ]
جميع آياتها كذلك؛ كما هو المشهور؛ وأما أن الصفة أيضا يجب أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصوف عند المخاطب؛ فالخطب فيه هين لما أن المخاطب هناك المؤمنون؛ وظاهر أنهم سمعوا ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ والمراد بالحجارة: الأصنام؛ وبالناس: أنفسهم؛ حسبما ورد في قوله (تعالى): إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ؛ الآية.
أعدت للكافرين : أي: هيئت للذين كفروا بما نزلناه؛ وجعلت عدة لعذابهم؛ والمراد إما جنس الكفار؛ والمخاطبون داخلون فيهم دخولا أوليا؛ وإما هم خاصة؛ ووضع "الكافرين" موضع ضميرهم لذمهم؛ وتعليل الحكم بكفرهم؛ وقرئ: "أعتدت"؛ من "العتاد"؛ بمعنى "العدة"؛ وفيه دلالة على أن النار مخلوقة؛ موجودة الآن؛ والجملة استئناف؛ لا محل لها من الإعراب؛ مقررة لمضمون ما قبلها؛ ومؤكدة لإيجاب العمل به؛ ومبينة لمن أريد بالناس؛ دافعة لاحتمال العموم؛ وقيل: حال بإضمار "قد"؛ من "النار"؛ لا من ضميرها في "وقودها"؛ لما في ذلك من الفصل بينهما بالخبر؛ وقيل: صلة بعد صلة؛ أو عطف على الصلة؛ بترك العاطف.